تحقيق التراث العلمي.. حلقة مفقودة في سلسلة اهتمامات من يعنيهم تحقيق التراث عامة.. إلا أن العالم الدكتور أحمد فؤاد باشا، أستاذ الفيزياء بكلية العلوم جامعة القاهرة لم تغب عنه هذه الفريضة، وهو يأتي في طليعة المهتمين بإعادة إحياء تراثنا العلمي، لأنه صاحب مشروع فكري، قاصدا به أجيالا قادمة لانتشالها من بئر الأمية العلمية، وإنقاذها من الانقياد وراء الغرب في ادعاءاتهم، ليمنح علماء العرب السابقين حقهم في السبق العلمي الذي قدموه للبشرية. والدكتور فؤاد باشا حصل علي الدكتوراه في الفيزياء من جامعة، موسكو عام 1974 وقد تدرج في الدرجات والمناصب الأكاديمية حتي تولي عمادة كلية العلوم، جامعة القاهرة عام 2000، ثم نائبا لرئيس جامعة القاهرة، وهو الآن أستاذ بالكلية ومستشار رئيس الجامعة لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة، وتم انتخابه عضوا بمجمع الخالدين والمجمع العلمي.. أثري د. باشا المكتبة العربية بما يزيد علي المائة كتاب (مؤلفا أو مترجما أو محققا) في العلوم البحتة والتطبيقية وفي الثقافة العلمية للأطفال والناشئة وفي مجالات الفكر الاسلامي وفلسفة العلوم. له اسهامات في مجال تحقيق المخطوطات العلمية منها كتاب (الجوهرتان العتيقتان، لأبي محمد الحسن بن أحمد الهمداني، تحقيق ودراسة، وصدر عن مركز تحقيق التراث، دار الكتب عام 2004، شرح مصادرات إقليدس للحسن بن الهيثم، ومصدر عن دار الكتب عام 2005، كتاب نزهة الإبصار في خواص الأحجار لشمس الدين العساني تقديم ومراجعة، رسالة في الهيئة لابن سينا، تقديم ومراجعة، صدر عام 2006 عن دار الكتب، شارك في اعداد موسوعات علمية منها دائرة سفير للمعارف الاسلامية (ترجمة إلي الماليزية)، موسوعة الكويت العلمية للأطفال، قاموس القرآن الكريم، علم الفلك (مؤسسة الكويت للتقدم العلمي)، موسوعة أعلام العلماء العرب والمسلمين، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (تونس) حصل علي جائزة خادم الحرمين الشريفين (الملك عبدالله بن عبدالعزيز) العالمية للترجمة في العلوم الطبيعية عام 2007، عن كتاب من الذرة إلي الكوارك مترجم من الانجليزية، وحاصل علي جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عام 2008 في مجال التراث العلمي العربي والاسلامي (اسهامات المسلمين في الحضارة الإنسانية في البداية قدم لنا الدكتور أحمد فؤاد باشا مفهوما مغايرا لكلمة التحقيق والتي درجنا علي معني واحد لها منذ أن بدأنا البحث عنها، حيث أوضح أن لفظ التحقيق -للأسف- غير مفوم جيدا في ثقافتنا العربية الاسلامية، مضيفا: وإذا أردنا تأصيلا لمعني التحقيق فهو في معناه العام إقامة النصوص العلمية والتقنية علي النحو الذي كتبت به من المؤلف ذاته أو أقرب ما يكون إلي عصره، وللأسف، كثيرون يقعون في هذا الخطأ لأن مساحة التحقيق في مجملها يشوبها كثير من اللغط وعدم وضوح الرؤية، وعدم الأمانة. من يأخذ أو يحصل علي مخطوطة بخط المؤلف ويتأكد من ذلك، ثم يدعي أنه يحققها، فهذا عمل لاينتمي إلي التحقيق بأية صورة من الصور، لكن الحقيقة أن اللفظ الذي أميل إليه في معني تحقيق التراث، هو إحياء التراث بمعني أنني أحصل علي مخطوطة سواء بخط يد صاحبها، أو أحصل علي أقرب نسخة لهذا الأصل (النسخة الأم). وما أقوم به هو إحياء هذه النسخة، أي تقديمها للحاضر أو المستقبل، محافظا علي أصالتها، وعارضا إياها بلغة العصر وأسلوبه، ومن هنا تمر عملية الإحياء بمراحل. بالحصول علي النسخة الأم، أو أقرب نسخة لها، ثم دراسة محتويات هذه النسخة علي يد متخصص، وهذا ما لايستطيع كثيرون القيام به، حيث ان الكثير من المحققين غير متخصصين، ثم تأتي المرحلة الثالثة وفيها يتم ترجمة هذه الدراسة والتحقيق، فتكون باللغة العربية لأهل العرب، وباللغة الأجنبية للأجانب، ثم يأتي بعد ذلك عملية النشر، نشر ما تم بعثه من جديد، هنا أكون قد حققت الفائدة بهذا الإحياء، بحيث يكون علما تراثيا مستقبلا. وضرب د. أحمد فؤاد باشا مثالا لإجلاء الحقيقة من خلال احياء التراث فيقول: نعرف -الآن- وندرس لأبنائنا في المدارس والجامعات أن قانون الجاذبية الأرضية قد اكتشفه اسحاق نيوتن، وهذه مغالطة تاريخية خطيرة، لأننا عندما نلجأ إلي التراث نجد كتابين، كتاب (الجوهرتان العتيقتان) للحسن بن أحمد الهمداني (اليمن)، الملقب بلسان اليمن (القرن الثاني الهجري، الثامن الميلادي)، في هذا الكتاب نص تراثي يعتبر وثيقة تاريخية بالغة الأهمية يقول النص "ان الأرض أشبه بحجر المغناطيسي تجذب قواه الحديد من كل جانب، وهكذا يكون الناس علي سطحها منجذبين نحو مركزها". في نص "الهمداني" هذا، معلومات تدل علي بداية الفكرة الصائبة، والتي تنمو بتتابع الأجيال، وتتابع العصور، والتي تثبت أن الهمداني هو مؤسس فكرة الجاذبية الأرضية قبل نيوتن بحوالي ثمانية قرون. ويقول نيوتن: (لم أصل إلي ما وصلت إليه، إلا بفضل وقوفي علي أكتاف العمالقة الذين سبقوني). وهنا، كون نيوتن يعترف بفضل من سبقوه في الوصول إلي ما وصل إليه، هنا يكون من الضروري تصحيح تاريخ العلوم، وهذا نموذج يعطينا مؤشرا لحاجتنا إلي تصحيح التاريخ، وإنصاف الحقائق العلمية، وإرجاعها إلي أصحابها، سواء كانوا من علماء العرب أو الصين أو الاغريق، وغيرهم. ويؤكد د. فؤاد باشا أنه للأسف الشديد، تركنا غيرنا يكتب تاريخ العلوم والحضارة، فرفع شأن بعض الحضارات كالحضارة الإغريقية، وحط ببعض الحضارات كالحضارة الاسلامية، ونحن نمحو بأنفسنا، نحن أصحاب هذا التراث العظيم، رصيدنا الحضاري، الذي أهملناه بحجة أن الماضي دائما لايفيدنا في حاضرنا، ولا في مستقبلنا، وهذا يوضح ببساطة الهدف الذي قصدته في البداية، وهو ألا يقتصر حديثنا علي التحقيق، ولكن يستوي إلي مستوي إحياء التراث العربي الاسلامي. وأشار د. باشا إلي أنه من حسن حظه أن أعاد تحقيق ودراسة كتاب (الجوهرتان)، وذلك عام 2003، بعد تحقيقين سابقين أحدهما لمستشرق سويدي اسمه (كريستوفر تول)، وحصل بتحقيقه هذا علي درجة الدكتوراه في احدي جامعات السويد، وتحقيق آخر قام به علام الجزيرة الشيخ حمد الجاسر، إلا أنني بعد هذين التحقيقين، لاحظت أن من قاما بتحقيقهما، بحكم تخصصهما البعيد عن العلوم، لم يفطنا إلي المصطلحات العلمية في الكتاب (النسخة الأم)، خاصة فيما يخص مصطلح الجاذبية، الذي أشرت إليه، مما دفعني كمتخصص في الفيزياء لترجمته إلي الانجليزية وبهذا حققت نموذجا لما ينبغي أن يكون عليه التحقيق (احياء كتب التراث)، وهذا يتطلب اعداد مدارس تحقيق ودراسة مناظرة للمدارس التراثية. كيف تري حال تحقيق التراث العلمي الآن؟ نحن نعيش - الآن- حالة فوضي في تحقيق التراث العلمي خاصة عندما يكون القائمون به غير مؤهلين، وغير متخصصين وأنا من خلال مجهودي المتواضع أقدم نماذج للكيفية التي يمكن أن يقوم عليها تحقيق تراثنا العلمي، ومن يقوم به، ولهذا سعيت إلي تأسيس سلسلة كتب ودراسات بعنوان (تراثنا العلمي)، ظهر منها حتي الآن خمسة أعداد، كلها تدور في موضوعات مهمة وخطيرة، رغم أنها منسية ومسكوت عنها بسبب التهافت الذي يجري الآن علي تحقيق مخطوطات غير ذات بال عن العلوم الدينية والفلسفية وغيرها. ما الفائدة التي يمكن أن يقدمها تحقيق كتاب "الجوهرتان" للهمداني؟ تحقيق كتاب "الجوهرتان العتيقتان" للهمداني، قدم فائدة كبري، عن طريق فريق بحثي جيوفيزيائي عن مناجم الذهب والفضة والمعادن المختلفة في أرض العرب، ودعوت إلي استثمار المعلومات الواردة فيه. أما الكتاب الآخر وهو (رسائل المكان والضوء وأضواء الكواكب) للحسن بن الهيثم، عندما احتفلت اليونسكو عام 2005، بذكري اكتشاف أينشتين لنظرية النسبية، كتبت يومها في جريدة الأهرام عن دعوة اليونسكو، وتساءلت أين دور علماء العرب والمسلمين في الاكتشافات العلمية؟ فالفيزياء لا تنسب إلي أينشتين وحده، ولكنها تنسب إلي علماء كثيرين سبقوه، وآخرين جاءوا من بعده، وتحققت نبوءتي عام 2015، عندما دعت اليونسكو للاحتفال بالعام الدولي للضوء، وجعلته علي شرف الحسن بن الهيثم المؤسس الحقيقي لهذا العلم، وآثرت أن أشارك في هذه الاحتفالية بمجموعة محاضرات في مصر وبعض الدول العربية، فقمت بتحقيق هذا الكتاب عام 2014، وعلمت آنذاك أن الحسن بن الهيثم مدفون في (القرافة الكبري) بمقابر الإمام الشافعي، وكان معروفاً أن قبره مجهول، ودعوت آنذاك إلي الاعلان عن هذه المعلومة، ودعوت أن تتبني الجهات المسئولة الاعلان عن هذه الحقيقة، واستثمارها سياحيا، ولكن لاحياة لمن تنادي.. كعادتنا!! ويواصل د. أحمد فؤاد باشا مشواره البحثي في تاريخ العلوم، فيقول: ثمة كتابان لهما مغزي في إطاري الفكري، حاولت من خلالهما أن أنشيء مدرسة مناظرة لعلماء الفيزياء الرياضيات، وظهرا في السلسلة التي نحققها (تراثنا العلمي)، كتاب في الفيزياء لابن الهيثم، وكتاب في علم البصريات لتقي الدين الدمشقي، وقام بتحقيقهما -تحت اشرافي - أحد المحققين، المتخصصين في الفيزياء، وهذا هو المنهج الذي أشرت إليه في منهجية تعاملنا في قضايا تراثنا العلمي. ولفت د. فؤاد باشا إلي أنه عندما يشتد الهجوم علينا في الغرب، ولم نجد ردودا له، كثيرا ما نستدعي رصيدنا الحضاري للرد علي دعاوي الطعن في قدرات المسلمين علي العطاء الحضاري، فهو الذي ينفعنا ونستند إليه، وللأسف الشديد نحن نحاكي الثقافة الغربية، محاكاة، القردة، خطوة، خطوة، لانكلف أنفسنا حتي مجرد اعادة النص والصياغة لبعض المقولات التي تتنافي مع ثقافتنا، ومع عقائدنا، لأننا نترجم عن الآخر ترجمة عمياء دون تبصر أو بصيرة، وتطبيقا علي ذلك مقولة (المادة لاتفني ولاتستحدث أي لاتخلق من عدم)، وهي ترجمة خاطئة، اتخذت شكل مقولة فلسفية لقانون علمي، وهي مقولة فلسفية ليست من العلم في شيء، وتخدم أيديولوجيات معينة. وماذا عن مشروعك الفكري. درست الفيزياء في جامعة موسكو، وحصلت علي الدكتوراة منها عام 1974، ثم حصلت علي دكتوراه أخري في الفلسفة الماركسية واللغة الروسية، وهذا مكسب دراستي للفلسفة، ومن هنا كانت البداية لوضع ملامح لمشروعي الفكري، القائم علي العلم والفكر الاسلامي المستنير، وعبر مسيرة طويلة استغرقت ما يقرب من أربعين عاما، تبلور هذا المشروع الفكري، من خلال عدد كبير من المحاضرات والندوات والبرامج التليفزيونية، والاذاعية والمؤتمرات والمؤلفات التي زاد عددها عن المائة كتاب ودراسة، تبلور هذا كله فيما يسمي بنظرية العلم الاسلامي، التي تتعامل مع العلم كقاسم مشترك للعلوم الأخري، الاجتماعية والانسانية والدينية، وبهذا يكون الفكر العلمي هو رمانة الميزان لتجديد كل أنواع الخطاب الحضاري واجتماعياته، وهذا مدون في كتاب ألفته عام 1984 بعنوان (فلسفة العلوم بنظرة اسلامية)، وهو يمثل الاطار الفكري للمشروع، وقمت بإعادة نشره في طبعة ثانية ببعض التعديلات عام 2014. ويؤكد د. فؤاد باشا علي مقولاته، بقول د. زكي نجيب محمود: (نحن ليس لنا فلسفة تخصنا، نحن نكتب في الفلسفة باللغة العربية، لكن ليس لنا فلسفة خاصة ندور في فلكها)، وقد ذكر هذا في كتابه (نقد الفكر العربي) عام 1984. وماذا عن أول كتاب ألفته خلال رحلتك العلمية؟ أول كتاب في التراث ألفته عام 1983، وكان بعنوان (التراث العلمي للحضارة الاسلامية)، قمت بتدريسه لطلاب جامعة صنعاء، تلي ذلك أني قمت بإعداد محتوياته وتقديمها في برنامج اسبوعي لمدة خمس سنوات عبر أثير الاذاعة المصرية الموجهة، والتي تترجم للغات أفريقيا وأوروبا. يسرد الكتاب الدور التنويري للعلماء العرب والمسلمين في عصر التنوير. من أساتذتك في مجال التحقيق أو إحياء التراث حسب رؤيتك له؟ لم يوجهني أحد للتحقيق، اعدادي وتكويني، اتجه نحو استيفاء عناصر هذا المشروع، في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، ففي عام 1981، أنشيء المعهد العالمي للفكر الاسلامي في واشنطن، وتبني مشروع اسلامية المعرفة، ولكن المعهد تبني فقط العلوم الاجتماعية والإنسانيات، اعتقادا منه أن العلوم الطبيعية لايجوز معها الخضوع لأية أيديولوجية، بدأت في هذا الوقت اعادة صياغة نظرية عامة في العلوم والتقنيات، قائمة علي فلسفة العلوم بنظرية اسلامية، فقمت بالجانب العلمي الذي ينقص الدراسات في هذا المعهد. كيف تري جهود الآخرين في تحقيق التراث العلمي؟ لفت نظري في التحقيق العلمي، جهود الدكتور عبدالحميد صبرة، أستاذ الفلسفة بجامعة الاسكندرية، وكان رئيس قسم العلوم المصرية بجامعة هارفارد، ورحل عن دنيانا منذ عامين لكن جهوده وجهود نظرائه من محققي التراث المعاصرين يؤخذ عليهم أنهم يحصرون أنفسهم في مجرد التحقيق، وليس الإحياء، ربما بسبب بُعد تخصصهم عن موضوع محتوي المخطوط، كما يعجبني - أيضا- منهج الدكتور رشدي راشد في احياء تراث الرياضيات، فكان يحقق ويقدم دراسات باللغة العربية، والفرنسية، ولهذا فقد حصل احد اعماله علي جائزة، الشيخ زايد، وجازة العويس. كيف تري موقف الجامعات المصرية وتقديرها للجهود التي تبذل في تحقيق تراثنا العربي؟ من المصائب المضحكة، أن جهود التحقيق في عالمنا العربي لايؤخذ بها درجات الترقي العلمية، ولايوجد عنها حافز، كما لايوجد في الجامعات قسم واحد يعني بتحقيق التراث وما يوجد ما هو إلا جهود فردية بحتة، ولايلتفت أحد من العلميين إليها، ولا حتي في الدراسات العليا. ومن جانبي حاولت أن أقدم خدمة في هذا الاتجاه، وساعدني علي هذا قراءاتي وترجماتي، إلا أنني سعدت جدا لمثقف عربي مستنير وهو الشيخ القاسمي، لقيامه بإنشاء مؤسسة الشارقة الدولية لتاريخ العلوم، وأتمني أن ينشيء مؤسسة مثلها نستعيد بها تجربة الخليفة المأمون في الترجمة، لتكون -أيضا- جسرا حضاريا بين العالم العربي، والإسلامي، والحضارة المعاصرة. ماذا يشغلك الآن؟ أنا مشغول الآن بالانتهاء من كتاب (حكاياتي لأحفادي عن مآثر الأجداد في العلوم والتقنيات) فهو كتاب علي وضعت مادته في قالب سردي يخدم جهود التربية العلمية وإصلاح تعليم العلوم، وأنا علي وشك الانتهاء منه خلال شهر.