علي هامش معرض مكتبة الإسكندرية الدولي للكتاب أقيمت ندوة بعنوان "شهادات إبداعية وإنسانية عن جمال الغيطاني" بالتعاون مع جريدة أخبار الأدب، انقسمت إلي جلستين أدارهما طارق الطاهر رئيس تحرير أخبار الأدب، تحدث في الأولي السيناريست محمد السيد عيد والناقد د.حسين حمودة، وفي الثانية شارك الكاتب السكندري مصطفي نصر، المترجم د.خالد رؤوف، والكاتبة والمصورة مني عبد الكريم. افتتح الطاهر الحديث؛ مؤكدا أنه الأكثر احتياجا الآن لجمال الغيطاني، ليس من أجل الاحتماء به وإنما من أجل تقديم الشكر له، وأضاف: "ربّانا الغيطاني علي أن نواجه الأمور بثبات، فنحن نعلم يقينا دورنا وقدرنا، وكثيرا ما يطرح عليّ سؤال نصه: هل يمكن لسقف الحرية أن يتراجع في أخبار الأدب؟ الإجابة جملة واحدة بأن هذه الجريدة وضع أسسها الأستاذ الكبير جمال الغيطاني ومن جذورها الأساسية الدفاع عن حرية التعبير، وبالتالي لدي جسر استند عليه ولن أفرط فيه". الكاتب محمد السيد عيد تحدث عن جزء من ملامح الغيطاني، قائلا: "لقد عاش حياته بأكملها منذ بدأ أن يفكر في الكتابة حتي آخر دقيقة في عمره يتساءل: كيف يمكن للكاتب الروائي أن يكون مجاهدا دون أن يلجأ إلي استخدام القوالب الغربية، وحاول الإجابة عليه من خلال تعامله مع التراث، وحاول استلهام ذلك في جميع أعماله، ففي الزيني بركات استلهم فن السيرة، وفي وقائع حارة الزعفراني نجده يستلهم ألف ليلة وليلة وفكرة المدينة المسحورة، وفي روايتي "الصبابة والوجد" و"هاتف المغيب" يستلهم الرحلة في شكل مختلف، فهو يكني عن شخصية المحبوب كما يفعل الصوفية من العاشقين حينما يكتبون في حب الله". اكتفي عيد بالحديث عن "الزيني بركات"، فقال: "كتبها الغيطاني بعد عام 1967، كان يريد أن يوضح من خلالها أن النظام القمعي الذي كان سائدا هو السبب في النكسة، ولم يكن وحده الذي تحدث عن ذلك، وقد استطاع أن يرسم شخصية الزيني بركات الذي نجح في تحقيق معادلة صعبة بالحصول علي حب السلطان والعامة، فبني عليها روايته، معتمدا علي الخيال والتاريخ، ووضع أمامه شخصيتين مهمتين جدا، كل منهما له عالمه المختلف، الأولي زكريا بن راضي، وهي غير حقيقية ابتكرها من خياله، ولكنه وضعها في جميع الأحداث الحقيقية داخل التاريخ، كما خلق له ذاكرة تليق برجل مخابرات، والثاني هو أبو السعود الجارحي". وبرؤية نقدية أكاديمية، قال د.حسين حمودة: "روايات الغيطاني ومجموعاته القصصية تحركت في مساحات متعددة جدا واستكشفت مناطق غير مأهولة للكتابة القصصية والروائية وراهنت رهانا أساسيا نجحت فيه علي الانفطام عن الجماليات المعروفة والشائعة في الروايات الغربية، من خلال وجهات تاريخية وواقعية متعددة، كما استندت تجربة الغيطاني علي لغة مصقولة، ومعرفة وإلمام هائلين بالتراث العربي القديم، ورغم التنوع كانت هناك نبرة من الأسي الخفية التي تلوح في كل نصوصه بدون حضور ملموس لها، فعبرت بعض كتاباته عن اللحظات الاستثنائية التي تبعث في الإنسان ما يجاور الحواديت، والتقط مشاهد من الواقع اليومي المطروح والمتناثر والمعروف للجميع بطريقة بلغت الحد المأساوي في بعض الأحيان". اقترح الطاهر إقامة مؤتمر حول الغيطاني، وقد تحمس له محمد السيد عيد بشدة، وأضاف عليه أن تتم إقامته في مسقط رأس الغيطاني بجهينة في سوهاج. من جانبه؛ سرد مصطفي نصر تفاصيل أربعة لقاءات توضح علاقته بالغيطاني منذ ذهب للتعرف عليه عام 1983 في مبني جريدة الأخبار ولم يجده، مؤكدا أن الغيطاني كان دائما يرفض الإقامة علي نفقة قصور الثقافة ويدفع لنفسه في أي مكان يتواجد فيه، وأضاف: "لروايته "وقائع حارة الزعفراني" فضل عليّ، فقد ظللت أفكر في كتابة رواية "الجهيني" لمدة طويلة جدا وأخاف من البدأ في كتابتها، وما إن فرغت من قراءة رواية الغيطاني حتي بدأت في الكتابة ولم أتوقف حتي انتهيت منها". واستكمل نصر: "أصولي تعود لمدينة المراغة القريبة جدا من جهينة - مسقط رأس الغيطاني - وظروفنا الاجتماعية متقاربة، فوالده جاء إلي القاهرة للبحث عن الرزق وكذلك فعل أبي، جاء إلي الإسكندرية شابا للبحث عن الرزق". ثم استطرد: "عندما تولي فاروق حسني وزارة الثقافة عام 1987 وطلب مقابلة الأدباء في صحن هيئة الكتاب، تحدث الكثير عن مشكلة النشر، لكن جمال طلب الكلمة واندهش لأنه لم يجد من يطالب الوزير بقرارات تساعد الكُتاب في تطوير أدواتهم وكتاباتهم كتخفيض سعر كتب التراث مثلا، فهذا كان شاغل الغيطاني دائما، قال لي أحلم بتطوير لغة الكتابة، وكان دائم البحث عن طريقة للسرد خاصة بكتاب العربية ومستمدة من التراث غير الطريقة الغربية التي فرضناها علي أنفسنا ولم نغيرها". رغم أنه لم يقابله أبدا، إلا أنه شعر دائما بعلاقة تربطهما، يقول د.خالد رؤوف: "بدأت اقرأ له وأنا في سن صغيرة، وصرت أتابعه مثلما يتابعه أي قارئ يشغله الأدب بشكل عام، لكن أول ما جاء إلي ذهني هو أن الغيطاني كان "بلديات" أبي، أذكر أنني قرأت أنه ولد ونشأ في قرية جهينة الغربية محافظة سوهاج وهي نفس القرية التي ولد فيها أبي ونشأ، فلما سألته عنه في صغري ابتسم و قال لي: كنا نراه يقف أو يجلس تحت أعمده الإنارة القليلة المتواجدة آنذاك في القرية وهو يقرأ، وأحيانا كنا نراه يقف بين الأولاد ويحكي لهم حكايات.. عبر أبي عن سروره بعصاميته ونجاحه وقال لي هذه الجملة التي علقت في ذهني منذ ذلك الحين "عامل دماغه علي إيده."، غمرني شعور غريب وأنا اقرأ الغيطاني يقول تقريبا نفس الشئ "أنا جئت إلي العالم أديبًا، لم يعلمني أحد الأدب".. فحديث أبي جعلني اهتم بالغيطاني كشخص أعرفه، كأنه أحد أقاربي من بعيد، فكنت اقرأ له وعنه وأتابع حواراته الصحفية وكأنني قارئ مختلف". وأضاف رؤوف: "أسلوب الغيطاني الأدبي يقترن دائما بالتراث، إلا أنه يتحرر كثيرا من الشكل الروائي الغربي الذي لم يقلده كما فعل أدباء آخرون من معاصريه وممن سبقوه، وغالبا ما كان يتوجه في نصوصه إلي نماذج عربية من القرون الوسطي، بهذه الطريقة حاول تأسيس تراث سرد مصري-عربي خاص في الأدب الحديث، وأظنه نجح في هذا إلي حد بعيد". كانت القاصة والمصورة الفوتوغرافية مني عبد الكريم هي آخر من لازم الغيطاني في جلسات تصويره الأخيرة، والتقطت له ما يزيد عن مائتي صورة رصدت من خلالها جميع ملامح شخصيته وتعبيراته، وهي أيضا الاسم الذي لفت نظر الغيطاني بشدة، بكتاباتها في مجلة الثقافة الجديدة - كما أكد طارق الطاهر - وتعد نفسها محظوظة أن يرتبط اسمها باسم أديب كبير مثل جمال الغيطاني، وأضافت: "كنت أكتب لأخبار الأدب من حين إلي آخر، وأشعر بالفخر أن يكون اسمي مطبوعا بجريدة يرأسها هو، ولكنني حين كنت أراه بإحدي الندوات ابتعد، أخشي أن أقدم نفسي إليه، ويبدو أن القدر كان يحتفظ بأجمل اللحظات حتي النهاية، عرفني الغيطاني أخيرا اسما وشكلا وتحدث معي وأبدي إعجابه بحماسي وكتاباتي، وقضيت معه يوما كاملا في رحاب شارع المعز، ولذلك علي أن أشكر من كانوا سببا في ذلك، الأستاذ طارق الطاهر الذي طلب مني أن أرافقه في رحلة إلي شارع المعز التقي خلالها بعدد من الكتاب الأسبان أثناء زيارة لهم إلي مصر، ثم علي كذلك أن أشكر الكاميرا؛ رفيقتي التي طالما احتضنت يدي وفتحت لي الطريق لعالم أكثر رحابة". شعرت مني عبد الكريم بالسعادة الغامرة حينما تم اختيار الصورة التي التقطتها للغيطاني لتكون فوق "تورتة" الاحتفال بعيد ميلاده السبعين، وكذلك زينت بقية الصور الاحتفاليات التي أقيمت فيما بعد لتأبينه، وآخرها تلك الندوة بمكتبة الإسكندرية، حيث أنهت حديثها بفيديو يضم عددا من تلك الصور يصاحبها موسيقي عمار الشريعي لمقدمة ونهاية مسلسل "الزيني بركات".