من المفترض أن قارئ "الجمهورية" قرأ العدد الماضي من "الأسبوعي" وما به من مادة غزيرة وجديرة بالقراءة في "ملف خاص في الذكري ال44 لملحمة العبور" وهو ملف ينشر عادة في ذكري العبور التي يجب ألا تكون ذكري "عابرة" في حياتنا. بل يجب أن تكون "حديث كل يوم" إلي أن نستعيد بحق "روح أكتوبر" روح العبور بالعرق والدم وروح الملحمة التي لم تسجل فصولها كاملة وموثقة إلي اليوم.. واعتاد كثيرون وأنا واحد منهم أن يسألوا في ذكري النصر والعبور وما تلاهما "في تقديري يجب ألا يحسب عليهما" أين وثائق الحرب.. وما قبلها؟.. ثم أين وثائق التسوية؟.. وفي هذا الشأن وفي هذه المناسبة فانه يمكن طرح هذا الموضوع من خلال ثلاث زوايا. أولاها: هي "شهادات الصحف السنوية" في هذه المناسبة المجيدة.. وثانيها هي ما يسمي "التاريخ الشفاهي" وثالثتها رد من السيد اللواء سمير فرج الذي اتحفنا في هذا العام بمقال وحوار لهما أهمية كبيرة وبمحاضرة وقد احتوي ملف الأسبوعي الماضي علي مقال اللواء سمير فرج ونشر حواره في "المصري اليوم". وسيأتي قدر من التفصيل عن هذا فيما بعد لنبدأ بما تنشره صحفنا في ذكري العبور كل عام من شهادات القادة البواسل والمقاتلين الشجعان الذين حققوا نصراً كبيراً وتفيض هذه الشهادات بمعلومات غزيرة عن بطولات سجلناها وانتصارات حققناها ومعلومات يجب ألا نهملها وألا ننساها ومن المعروف أن هناك جدلاً مثاراً حول مدي صلاحية ما تنشره الصحف ليكون مادة وثائقية ولعل المقصود بالصلاحية أو عدمها هو المادة الخبرية والأفكار التي يسجلها الكتاب وبالطبع فإن هذه الأخيرة مادة مفيدة في تاريخ الأفكار. أما الشهادات والوقائع التي تروي بألسنة أصحابها - أو حتي شهودها - فلا يمكن اهمالها بالكامل بل يمكن جميعها من بطون الصحف علي مدي السنوات الماضية لتكون "مادة خاما" توضع بين يدي مؤرخين محترفين ولهم إلمام بالشئون العسكرية ليعكفوا علي دراستها واستخراج ما يرجحون وقوعه منها وإصداره في سلسلة من الكتب العلمية تعتمد أساسا علي المواد الصحفية المنشورة ولعل الإدارة التي تتولي شئون التاريخ في القوات المسلحة تستطيع أن تساعد في هذا بالمستوي اللائق بهذه القوات وبهذه الحرب وبرجالها من شهداء وأحياء أطال الله أعمارهم حتي نستفيد مما يدلون به من شهادات مفيدة نافعة لحاضرنا ومستقبلنا. تسجيلات في 40 ساعة ولعل هذا مما يدخل في باب "التاريخ الشفاهي" الذي أصبح مدرسة تاريخية قائمة بذاتها. قدم المشاركون فيها أعمالاً مهمة وأحداثاً يصدق عليها "ما أهمله المؤرخون" في قضايا مهمة وهناك مبادرات علي مستوي فردي يبدو أنها متعددة. ولكنها السبب أواخر لم تكتمل. أي لم تر النور ولم تخرج من "العلب".. من ذلك ما قام به السيناريست والسينمائي الكبير المرحوم فايز غالي من تسجيلات استغرقت 40 ساعة علي مدي 6 شهور مع أبطال الجيش الثاني دمرواً عدداً كبيرا من دبابات العدو بصاروخ "مولتيكا" وفي كل عام تفاجئنا بعض القنوات الفضائية بتسجيلات عن بطولات خارقة للعادة جرت في حرب العبور المجيدة. فمتي يسجل كل هذا ويوثق بكل دقة ودون تهويل أو تهوين؟. خطة الخداع الاستراتيجي وحين نصل إلي السؤال الأساسي: أين وثائق حرب أكتوبر وانتصاراتها دون أن ننسي ذكر أن مقال الدكتور اللواء سمير فرج في العدد الماضي من الأسبوعي احتوي علي أسماء ووقائع جديدة تذكر لأول مرة. في حدود متابعتي بعد 44 سنة علي العبور والنصر. من ذلك أن واضع خطة الخداع الاستراتيجي في حرب أكتوبر هو "العقيد مهندس أحمد نبيه" وقد استوقفني في حواره بالمصري اليوم 4 أكتوبر الحالي قوله رداً علي سؤال طرح عليه "بين حين وآخر تتصاعد المطالبات بالافراج عن وثائق وأحداث الحرب. وهي مطالب لا بأس بها. ولكن تحكمها ضوابط وأحب أن أؤكد أن كل ما شهدته حرب أكتوبر من أحداث ووقائع موثقة ومسجلة بالكامل. وجميع سجلات الحرب أعيد تدوينها وترتيبها في سجلات وثائق "سري للغاية" القضية الآن هي متي تخرج هذه الوثائق إلي النور؟ كل المطالبات بالإفراج عنها له حق في المعرفة.. ولكن الموقف لدينا يبدو غريبا بعض الشيء. فعدوك التقليدي معلوم ومسرح عمليات الحرب لا يزال قائماً في سيناء. فعندما أكشف عن تحركات كان من الواجب أن تتم أو طبيعة أرض اكتشفنا فيها شيئاً ما.. وهذه الوقائع لا تزال قائمة بظروفها فمن الصعب أن تكشف عن ذلك. نحن لدينا أفكار وخطط ليس من الطبيعي أن نفرج عنها لأن ظروفها "التضاريسية" قائمة بنفس المعطيات. ومن هنا ليس من صالح مصر الكشف عن ذلك. ولكن لدينا "دروسا مستفادة" فيما يتعلق بالجانب البحثي.. وهذا حق الدارسين. ورداً علي سؤال: "الذي يتحدث هنا اللواء سمير فرج الرجل العسكري أم خبير الإعلام؟" أجاب: "اللواء سمير فرج: فرج "العسكري". أما حق المعرفة فهو متاح للأغراض البحثية وحتي النقاش المجتمعي في الندوات المتخصصة وواجبنا أن نوضح للناس ذلك. فمثلاً دول عديدة مدت في مدة الإفراج عن الوثائق. ولاحظ هنا التفرقة بين الوثيقة السياسية.. والوثيقة الحربية. هناك فرق كبير". لا خرق لأسرار عسكرية إجابة ذكية في عمومها ولكنها في التفصيلات تثير تساؤلات. من المؤكد أن لا أحد يريد كشف أسرار عسكرية. كما أن الحظر - مهما طال أمده - يكون بشأن وثائق محددة. وفي بعض البلاد يمكن رفع الحظر بحكم قضائي. أما تفرقة السيد اللواء الدكتور سمير فرج بين الوثيقة السياسية والوثيقة الحربية فأمر صحيح. ولكن أين هي الوثائق السياسية التي أفرج عنها بشأن "عملية التسوية" من بدايتها إلي اليوم. كما أن هناك وثائق ذات صلة بجانب سياسي وآخر عسكري. فما الموقف منها؟ سأضرب مثلاً بشهادتين لقائدين سابقين من رجال حرب العبور والنصر. وردت الشهادتان في حوارين معهما نشرتهما "المصري اليوم" في يوم الخميس 5 أكتوبر الحالي. الصفحة التاسعة. وهما حول "الثغرة" وقدرة قواتنا علي التصدي لها. ولماذا لم يحدث هذا. الشهادة الأولي علي لسان السيد اللواء عبدالعزيز قابيل قائد الفرقة الرابعة في حرب أكتوبر وقال فيها: "كنا واثقين من النصر وأننا قادرون علي التصدي لهذه الثغرة والتعامل معها. وخلال الحرب كنا حريصين علي ضرورة استمرار أسلوب القتال لتحقيق النجاح في مهمة استعادة الأرض الشهادة الثانية وردت علي لسان السيد اللواء أحمد شوقي الحفني رئيس عمليات الصاعقة في حرب أكتوبر في حواره مع الصحيفة نفسها وعلي الصفحة نفسها وكشف فيه واحداً من "أسرار" الحرب و"التسوية" بقوله: تم تكليفي بالذهاب في مهمة مع قائد الصاعقة العميد نبيل شكري وقت ذاك إلي اللواء عبدالمنعم خليل الذي تولي قيادة الجيش "الثالث" بعد مرض سعد مأمون. وقد عرفت عن قرب وجود خطة كاملة للقضاء علي الثغرة. وكان هناك ما يكفي من القوات لها. وتم توزيع المهام غير أن كيسنجر "وزير خارجية أمريكا آنذاك" قال للسادات في أسوان "إننا لن نسمح بنصر آخر لمصر". ورواية سوفيتية - روسية هناك رواية عن هذه الواقعة نفسها واقعة إمكانية تصفية الثغرة وموقف كيسنجر منها. ولكنها فيها جوانب سياسية أخري وهي رواية الصحفي والدبلوماسي والسياسي السوفيتي الروسي يفجيني بريماكوف في كتابه "الكواليس السرية للشرق الأوسط النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين" ترجمة الدكتور نبيل رشوان والصادر عن المشروع القومي للترجمة في 2016. تحدث الكاتب عن لقائه وزميله الدكتور ايليايف مع الرئيس السادات في 25 نوفمبر 1975 واستمر ثلاث ساعات واتسم الحديث بأنه تناول أشياء كثيرة مختلطة. ومن جانب واحد وجاء في هذا اللقاء علي لسان الرئيس السادات رحمه الله قوله: "...مارس جنرالاتي ضغوطاً عليّ لقطع الممر الضيق الذي يصل دبابات شارون بالقوات الاسرائيلية الأساسية وضرب رأس الجسر الذي استولي عليه كان كل شيء لهذا الغرض موجوداً وكان لدينا ضعف عدد الدبابات والمدفعية".. لكن هنري كيسنجر أرسل لي "أي إلي الرئيس السادات" رسالة قال فيها: "سيادة الرئيس إذا انتصرت الأسلحة السوفيتية علي الأسلحة الأمريكية مرة ثانية فإنه لن تكون لدي قدرة لمقاومة البنتاجون واتفاقنا معكم سيتعرض للخطر".. ويقول صاحب هذه المذكرات إنه وزميله بيليايف سألا الرئيس السادات عن أي اتفاق تتحدث؟. لكن السادات غير الموضوع. جري هذا اللقاء في برج العرب في وقت توقف فيه الرئيس السادات عن لقاء أي ممثلين سوفييت "ص 176-177". وحتي لو توقفنا عند هذه الواقعة وحدها بعد وقبل كل ما جري من اتصالات ولقاءات بمد وقف القتال في جبهة قناة السويس سواء مع الامريكيين أو غيرهم فإنها تقود إلي طرح سؤال محوري: أين هي الوثائق السياسية والدبلوماسية عن هذه المرحلة ولعل المرء يتذكر هنا أن الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل ذكر في أحد أحاديثه أو مقالاته أنه لا توجد وثائق في هذا الشأن.. فهل هذا صحيح؟! وإذا كانت موجودة ألم يحن أوان الكشف عنها؟ هل سننتظر إلي أن يصدر القانون الموعود الذي يتيح حرية الحصول علي المعلومات ولا تراود المرء ذرة من شك أن أي وثيقة سواء عسكرية أو سياسية سيرفع الغطاء عنها ستكون شهادة جديدة علي شجاعة وبطولة الرجال الذين استعدوا لحرب اكتوبر والذين خاضوها ببسالة قد ينعدم نظيرها وهؤلاء هم جيش بلادنا عبر تاريخنا المجيد واسملي يا مصر. [email protected]