مازالت ترن هذه الكلمة البليغة والمختصرة لجملة صباح الخير في أذني.. كانت تقولها وتمضي في طريقها إلي أي مكان في الشقة مثلما تفعل كل النساء في قريتها حين يقلنها وهن في طريقهن والذي تختلف وجهته من "الغيط" إلي أي مكان آخر هناك. سمعت منها لأول مرة كلمة "عواف" ولم اكن اعرف انها اختصار لكلمة "العافية" أي التمني للآخر الصحة والعافية.. ومن هذه الاختصارات التي سمعتها بعد ذلك بشكل عادي أدرك بلاغة المصريين في الاختصار. * هي أمي التي لم تغادرني ابدا رغم رحيلها منذ سنوات ...كانت صلبة كحجر الصوان رغم دمعتها القريبة.. أصبح يوم 21 مارس من كل عام عيدا للحزن والشجن وعندما اجدني في صورة غير ملائمة لمن يحتفلن بامهاتهم اتماسك واذرف دمعي إلي داخلي وارسم ابتسامة علي وجهي لكنها تخرج شاحبة وباهتة.. تزلزلني اغنية ست الحبايب يا أمي بصوت محمد عبدالوهاب وفايزة أحمد.. تمزقني قصيدة محمود درويش بصوت مارسيل خليفة: "أحنّ إلي خبز أمي و قهوة أمي.. و تكبر في الطفولة.. يوماً علي صدر يوم.. وأعشق عمري لأني... ولمسة أمي.. إذا متّ... أخجل من دمع أمي.. خذيني. إذا عدت يوما... وشاحاً لهدبك..و غطّي عظامي بعشب... تعمّد من طهر كعبك". * أبحث عنها هائماً في الشوارع حين لا أجد من أبكي علي صدره.. أبحث عنها في العيون حين لا أجد عيونا تبكي علي.. نزفت هذه المشاعر من قبل في هذا المكان وكنت أظن انني شفيت من الوجع ولم أعرف ان تقدم السن يحمل معه حنينا إلي أب وأم رحلا تاركينك لأمواج الحياة... تلاطمها وتلاطمك ... تحاربها وتحاربك بلا سند أو ظهر "الأب" الذي تحتمي به أو حضن وقلب "الأم". "وشدّي وثاقي...بخصلة شعر... بخيط يلوّح في ذيل ثوبك.... عساي أصير إلها.... إلها أصير..إذا ما لمست قرارة قلبك... وقودا بتنور نارك.... وحبل غسيل علي سطح ...دارك...لأني فقدت الوقوف...بدون صلاة نهارك...هرمت .فردّي نجوم الطفولة... حتي أشارك... صغار العصافير... درب الرجوع... لعشّ انتظارك....ضعيني. إذا ما رجعت!! * الله يرحمك يا أمي.....لم يفارقني وجهها لحظة بدأت رحلة البحث عنه والكتابة عنه في الصحف والجدران .. في المقالات والابداع ... فيما اكتب وما يكتبه الآخرون .... كتبت وسأظل اعيد ما كتبت و لن أمل ابدأ وسأظل اكتبه مرات ومرات واصرخ به مرات ومرات حتي يتحقق الحلم حتي وان بدا مستحيلا .... أبحث عن وجهك في كل وجوه الأمهات....أسير في الطرقات والشوارع والأسواق....زائغ البصر. تائهاً....أدقق النظر في كل من أقابله .....التفت يمينا ويسارا ....ابحث عن وجهك كاملا ....لا أجد ....وعندما يصيبني الفشل. أسترد ما تبقي من قوتي معيدا المحاولة. ومحاولا ضرب اليأس في مقتل قائلا: مش مهم الوجه أو المظهر كاملا ....ممكن تجميع ملامحك ولو من مليون وجه... أحاول أن أكون شكلك من آلاف الوجوه التي أمسحها بدموعي في لحظات... * هاتان عينان تشبهان عينيك ....لا !!....لونهما ليس أسمر كسواد الليل مثل عيناك .....نظراتهما ليست صافيتين مثل نظراتك .....أين شلال الحنية المنساب كالسلسبيل منهما؟....لا عين تشبهك .....نعم عين من عينيك أتعبها الزمن فأصيبت ب¢وهن¢ النظر بعد أن كان حديدا .....ومع ذلك حولت البلاء إلي نعمة من ربنا. استمتعت بوهن النظر كما كنت تسخرين. ومعك بعض الحق. ...لا.. كل الحق .....حتي لا ترين الجحود وقلة الأصل..! * هذا أنف يقترب من أنفك .... لا .....أنفك أصغر ¢شويتين¢ .....وحاسة الشم عندك أكثر قوة ....تفرقين بسهولة بين شعرة ¢الخبيث ¢ و¢الطيب¢.....تدعكين أنفك قائلة:يا بني شامة ريحة شياط .....اضحك .....تكملين كلامك بثقة وغير مبالية بسخريتي:- بكرة تشوف !!....وتثبت الأيام صدقها. ..... * هذا شعر مثل شعرها في الصغر .....نعم أسود فاحم ....لكن شعر أمي أصبح خفيفا وأبيض في الكبر .....لم تحب أبدا صباغته ولو بالحنة السمراء ....تقول ساخرة:-ح نضحك علي الزمن بشوية حنة وصبغة إزاي يا بني ....أرد ساخرا : دول بيشدوا ¢الوشوش¢ دلوقتي يامّا ....ترد:- وإزاي بيشيلوا ¢الهموم¢ ويشدوها ويجرجروها من علي الوش والظهر يا بني .....أقول:أشيل عنك يامّا ...ترد: شالت عنك العافية. * هذا فم صغير مثل فمك .....لكنه لا يقطر حكمة وحنانا مثلك !! * هذه ذقن تشبه ذقنك يا أمي ....مازلت أذكر عندما كنت أعاكسها وأحاول تشويكها بذقني "النابتة".. تضحك قائلة: روح اشتري موس بنص إفرنك. وشيل ذقنك المقشة دي .....أضحك قائلا: طب ح اربي شنبي .....ترد: ربي حاجة تنفعك .....ثم تستطرد وكأنها تنسج ثياب الحكمة: الرجولة مش بالشنب يا بني. في ست بمليون رجل. وفي رجالة م حصلوش النسوان. * أبحث في الوجوه عن وجهك .....لا أجد !!.. أحاول الاكتفاء ولو بنظرة عين أو مسحة حب أو ملامح سحنة .....لا أجد!! * وعندما حاصرني الفشل بدأت رحلة اخري ... البحث في الارواح الساكنة في الاجساد ... بدأت الرحلة بالإيمان بتناسخ الأرواح.. انظر بعمق وضوء كاشف كما اظن لما وراء الوجوه والاجساد .. هل يمكن ان تزورني امي في صورة قطة؟ ... هل يمكن ان تزورني أمي في صورة طفلة؟ ... هل يمكن ان تربت امي علي كتفي قي صورة ام تربت علي كتف ابنتها؟ .. حتي حدث ما لم اتوقعه .. رأيت روح امي في وجه ابنتي الصغيرة ... انتابتني حالة فزع وابنتي ¢ سما ¢ ذات السنوات الست تنظر لي بتحد وبنظرة زلزلتني حين رأيت امي شاخصة امامي في الطفلة الصغيرة ... انسحبت فورا من امامها حين رأيت امي في عينها ووجهها الأخضر و بدون سابق انذار ... لملمت نفسي بصعوبة من لحظة لم ادرك طولها او قصرها لكنها دهر ... لم استطع المقاومة وداريت دموعي المنسابة علي خدي وهربت!! * ولدت في المنوفية. ولم أعش بها. وكنت أتمني...وكانت المفاجأة أن نقلت أمي القرية إلي بيتنا في القاهرة. وللدرجة إللي جعلتني أعرف وأحفظ كل شيء في قريتنا والقري المجاورة عن ظهر قلب ....عن البشر والحجر .....الدور¢ والطرقات .....السواقي والغيطان .....المحراث والفأس ¢اللي بتكسره المدفونة¢!.....الجنيات والعفاريت .....الجبانات والترب القديمة التي تحولت لمكان لدفن السحر والأعمال .....الحكايات والحواديت .....الميراث والدم .....الحقد والغل .....أنواع الزرع والورد ....أشجار الفواكه وحكايات الجميزة الكبيرة وشجر الجازورينا وأم الشعور اللي بتغسل شعرها عند الساقية القبلية .....النحل وخلاياه الطينية والخشبية .....وعسل النحل وأنواعه .....ده عسل بطعم نوارة البرسيم وده بطعم رائحة البرتقال وآخر بطعم الورد...إلخ ....ودرس عملي عن كشف العسل المغشوش بماء السكر من العسل الصافي ....والتجربة بعود كبريت أو بالإصبع الصغير ....إذا انقطع خيط العسل المنساب من عود الكبريت بعد غمسه فيه. كان العسل مغشوشا ....وإذا استمر الانسياب حتي آخر نقطة كان العسل صافيا!......أين أنت يا نبع العسل الصافي؟! * في القرية أو ¢البلد¢. كما نحب أن نطلق. كنت أفاجئ أولاد خالي بحكايات أمي عن أي شخص يأتي إلي بيت خالي بمجرد سماع اسمه. فأنا أعرف الأسماء غيابيا عن ظهر قلب. ولا أعرف أشكال أصحابها ...كانت جامعة شعبية. حفظت منها الأمثال وورثت عنها بعض الحكايات والقدرة علي ¢القفشة¢ بالنكتة والسخرية. وإن لم أتمتع بخفة دمها! * عندما ¢توحشني¢ وأشعر بحنين لها...أهيم في الطرقات ....علني أتشمم بقايا أنفاسها ....أحاول أن أسير في نفس الطرق ....علني ألمس بعضا من تراب داست فوقه. في مقام السيدة زينب أجلس أبكي ....هنا كانت تأخذني وأنا صغير وتحملني حتي ¢أطول¢ المقام باكية وقائلة بكلام مبلل بالدموع والرجاء متوجهة إلي السماء : يا رب بارك لي فيه!! وعندما نخرج من المقام تكرر حكايتها التي لا تمل من تكرارها :في ليلة نمت حزينة بسبب موت من سبقوك. ومعايرة زوجة عمك لي بأنني لن أنجب سوي البنات إذا حصل. وهي أم الصبيان ...كانت تدلعهما وتغني لهما. و¢تلقح¢ وتقذف بالأغاني والكلام ¢السم¢ علي. نمت ودمعي مغطي المخدة. وجاء الحلم البشارة .... السيدة زينب بشرتني بك قبل الحمل فيك. لذلك آتي إليها بين الحين والحين لسداد بعض الدين!!. كلما أردت أن استعيد حكاية أمي أذهب لمقام الست وأجلس ....وبعد فترة لا أشعر بها أخرج مغتسلا من وحدتي وحزني وضيقي ومتدثرا بصوت أمي وسخريتها لمواجهة الحياة. * المرأة الاستثناء!! أمي هي المرأة الاستثناء ....خلقها الله لي ولم يخلق مثلها النور شلالات من عينيها ....النيل ينساب فوق وجنتيها ....الشمس تشرق من وجهها ....ولفحة الشمس و¢الشقي¢ المقدس يسكنان جبينها ....هي المرأة الوحيدة التي أحبتني بدون غرض ....رحل أبي قبلها. ف¢انكسر¢ ظهري ....ورحلت هي ف ¢انكسر¢ قلبي وكان كسر القلب أقسي وأشد ....لم تنفع معه جبائر جبس أو دعامات. منذ رحيلها ....تحول يوم عيد الأم إلي نكد ....وعيد الأضحي بدون ¢أكلها¢ إلي جوع حقيقي ....وعيد الفطر بدون كعكها وبسكويتها إلي علقم وحنظل. هي ليست مثل النساء ... هي ليست مثل باقي الأمهات .. هي أمي وحدي لا مثيل لها ولا شبيه ....عيد بأي حال عدت يا عيد ....بدون أمي صرت مع أمثالي شريداً!!