* أيام قليلة تفصلنا عن الذكري الثانية لثورة يناير.. ولكل منا ذكرياته مع الثورة.. فمنا من يراها حلماً لم يكتمل.. ومنا من يراها جرحاً لم يندمل.. ومنا من يراها مارداً خرج من القمقم وليس بإمكان أحد أن يعيده إليه.. فالشعوب هي المنتصرة. والتاريخ هو القاضي والحكم الذي لا يخيب حكمه ولا تغيب شمسه.. لكن ما لا شك فيه ولا خلاف عليه أن روح ميدان التحرير. روح الاندماج والقوة.. والصبر والمقاومة.. والشجاعة والتضحية.. والتحضر والرقي.. كانت هي العنوان الأبرز لثورة يناير وهي الملهمة للدنيا ولشعوب العالم وزعمائه.. حتي أن بعضهم قال إعجاباً وافتتاناً بالثورة المصرية : ¢ لا جديد.. فالمصريون يكتبون التاريخ دائماً ¢!! لكن ماذا حدث لروح الثورة.. وميدان التحرير أيقونة الثورة.. كيف تبدلت العبقرية والتوحد إلي تشاحن وانقسام.. كيف انسحبت العظمة عن ميدان التحرير. وغشيته مظاهر الفوضي والفرقة.. كيف تحول من مضرب للأمثال. ومكتشف للروح المصرية الفذة. ومعين للإبداع والتفوق حتي أن من لم يعرف شعب مصر كانت تكفيه زيارة واحدة لهذا الميدان في أوج عنفوانه وعظمته لإعادة اكتشاف هذا الشعب العظيم الذي كتب تاريخاً جديداً للثورات والإنسانية كلها في ذلك الميدان. في لحظة فارقة أوقفت طوفان الاستبداد وجحافل الطغيان.ومهدت الأرض لولادة جديدة للأمة المصرية.. كيف تبدل هذا الميدان؟! في الأيام الأولي للثورة التي ما إن اندلعت شرارتها حتي استولي الشباب علي أرض الميدان. واعتبروها أرضا محررة أقاموا فيها دولة مستقلة بلا زعيم. وثورة بلا قائد. وجماعة تعرف الحق فتؤديه بما توجبه عليها دواعي الفطرة. وتعرف الباطل فتنتهي عنه دون رادع ولا رقيب إلا ضميرها الثوري الحي. شكل شباب التحرير حكومة تصريف الأعمال. فيها وزارة للإعاشة تتلقي تبرعات المواطنين. أكلات بسيطة توزع مجاناً. ومياه تروي الظمأ. وأقاموا دورات مياه سيدات ورجال. في تنظيم فائق الروعة. كانوا يأكلون معاً. ويصلون معاً. للمسلمين صلواتهم. وللمسيحيين قداساتهم. يتبادلون الحماية والتأمين بصدور عارية وقلوب محبة للوطن. كانوا ينظفون المكان. وينظمون المرور. ويعالجون المصابين في مستشفي ميداني هو صناعة مصرية بامتياز.جاءها المدد والعلاج من كل مكان. وأقبل عليها أطباء وممرضات متطوعون يتفانون في العمل علي أفضل ما يكون. باختصار.. انتظم الثوار الأوائل في مجموعات عمل مبهرة.لا تعرف الكلل ولا الفوضي ولا التواكل. ولا ظهرت فيها الأنا ولا الأنانية ولا المصالح الضيقة. أقاموا وزارة للأمن تفحص هويات الغادين. وتمنع اصطحاب الأسلحة وما قد يهدد سلامة مجتمع الثورة. حتي الباعة الجائلون جري إلزامهم بتسعيرة جبرية عجزت عن إقرارها حكومات ما قبل وما بعد الثورة علي السواء. * أقام الثوار الأوائل وزارة لإعلام الثورة. تبرع بأجهزة بثها مواطنون مناصرون للثورة. وكان الميكروفون ملكا لكل من أراد التعبير عن شكواه أو التنفيس عن همومه أو عرض مطالبه.أو التعبير عن رأيه بحرية وموضوعية بلا رقيب وهو ما عجز الإعلام الحكومي عن تحقيقه. حتي رأينا المتملقين يستولون عليه ليمدحوا الحكومة. ويهيلوا الترابَ علي خصومها ومخالفيها في الرأي. * لقد رفعت الحكومة العاجزة يدها عن ميدان التحرير في ذلك الوقت. فتسلمه شباب واع أقاموا فيه حكومة ائتلافية توافقية تضم جميع الأطياف الثورية بلا نزاع ولا صراع ولا هوي. حكومة ناجحة أقامت العدل. وحققت التكافل والنظام والأمن. حكومة كشفت عن عبقرية شباب أسأنا الظن فيه وأحسن هو العمل والفكر والقرار والتصرف. شباب ظنه النظام السابق لاهيا عابثا غارقا في توافه العالم الافتراضي فإذا به شباب ناضج فاهم مثقف مدرك متحمس مبدع. تفيض العبقرية بين شطآن أفكاره. وتتفجر ينابيع الحكمة بين أفعاله وسلوكياته. ويتحطم عناد واستبداد النظام علي صخرة إصراره ليؤكد للعالم أجمع أن مصر الولادة لا ينضب عطاؤها أبداً.ولا تجف ينابيعها . شباب أثبتوا قدرتهم الفائقة علي تسيير أمورهم بأبسط الإمكانيات وبأقل الميزانيات.شباب قادر علي النهوض بمجتمعه وبناء نهضته ومجده والسير به نحو مستقبل واعد مشرق يستحقه بلدنا عن جدارة واقتدار بعد أن عجزت حكومات الفشل والعواجيز عن التواصل معه وإقامة جسور التواصل والتفاعل والحوار الجاد مع هؤلاء الشباب الذين يمثلون ثلثي سكان مصر. * لقد جري تغييب الشباب وحجبه عن مواقع المسئولية واستأثر العجزة بالمناصب حتي شاحت الدولة وتيبست مفاصلها. واحتكرت حفنة شاخت في مواقعها مقدرات البلاد والعباد وحرمت الشباب من أبسط الحقوق. حق الحياة وألقت به في غياهب الفراغ والبطالة والإحباط والانكسار والسلبية!! * ورغم أن السطح كان يبدو هادئا ساكنا لكن الأعماق كانت تفور بأشد التفاعلات. ولما حانت لحظة الحقيقة تهاوت القشرة وانفجر البركان وامتلك الشباب زمام نفسه وأعطي لقادته وحكامه ومنتقديه درساً قاسياً لا ينساه إلا من خلت نفسه من التدبر وعقله من الحكمة والتفكر..لقد أعطي شباب يناير درساً للجهلاء والمتجاهلين والمتعالين الذي انشغلوا بأطماعهم وجشعهم عن طموحات هؤلاء الشباب وأحلامهم المتواضعة في العيش والحرية والعدالة. ونسوا أن الشباب طاقة لا يصح تعطيلها وقدرة لا ينبغي تعجيزها. وحلم لا يجب الالتفاف عليه أو الاستهانة به. لقد قال الشباب كلمته وكان الوقود الحيوي والكتلة الحرجة لأعظم ثورة في التاريخ. وقد رأينا الحزب الوطني وحكوماته المتعاقبة علي مدي عقود قد أغفل التواصل مع القواعد الشبابية وعجز عن مد الجسور معها وأساء الظن بها ووقع في الخطأ الأعظم الذي فجر الثورة حين أغلق النوافد كلها والقنوات جميعها وصادر السلطات واحتكر المناصب والثروات وكل مقدرات الحياة.. أخذ كل شئ فخسر كل شئ وولدت الثورة من رحم الاحباط علي أيدي عقول مستنير بررة لولاهم ما كانت ثورة ولا تغيير ولاحرية. لقد بُح صوتنا في الدعوة لإقامة مشروع قومي يستوعب همم الشباب وطاقاتهم.. لكن أحداً لم يسمع ولم يدرك أن حركة التاريخ ماضية إلي غايتها لا يوقفها استبداد ولا يجرفها فساد ولا يكبتها عنف أو طغيان.. وكان ما كان حين انتفض الشباب ممسكاً بزمام أمره بعد أن يئس أن يسمعه أحد فأحدث في مصر ما لم يكن يتوقعه أحد لا في مصر ولا في العالم أجمع. لا قوي سياسية ولا محللون سياسيون ولا حتي أجهزة مخابرات في الداخل والخارج.. لتتحقق سنة الله في كونه وتنتقل مصر إلي عهد جديد وتجربة فريدة بأشواق حارة للعدالة والمساواة والديمقراطية.. وتلك هي مطالب الثورة. كانت جمهورية التحرير نواة لجمهورية مصرية قادمة نتمناها جميعاً علي طريق الخير والنماء.جمهورية يسودها الحق والحقيقة والشفافية.. لكن هذا المشهد الجميل سرعان ما تبدل إلي انقسامات وصراعات. فتحولت مصر المتوحدة علي قلب رجل واحد إلي مصر المنقسمة.. وما إن انتهي الثائرون من إسقاط رموز النظام القديم حتي غرقوا في الجدل والخلاف.. ربما لأن أحداً لم يكن يتوقع نجاح الثورة. ولم يعد الإجابة عن السؤال الأهم : ماذا بعد سقوط النظام.. وما هو البديل وأين خارطة الطريق..؟! لقد طغت الفرحة العارضة بسقوط النظام علي قلوب الثوار ونسوا أن لكل ثورة أعداء وأهدافاً. فلا الأعداء تركوهم وشأنهم. ولا الأهداف توافقوا علي كيفية تحقيقها.. فنشأ النزاع علي الخطوة التالية: أهي الدستور أولاً أم الانتخاباب.. وكان ما كان وتوالت الأحداث والصدمات والمصائب والتعدي علي المتظاهرين وظهر ¢ الطرف الثالث ¢ الحاضر الغائب ¢ المجهول ¢ الذي لا يزال موجوداً حتي الآن.. غياب الرؤية المتكاملة والبدائل الممكنة منذ البداية أورث الثورة ارتباكاً وتخبطاً. وأعاقها عن بلوغ كل أهدافها ومطالبها والتي لم تتحقق بعد رغم إقرار الدستور والاستعداد لانتخابات برلمانية ثانية.. وتجيء الذكري الثانية.. ليستقبلها المصريون بقلوب شتي.. منهم من يدعو للاحتفال بها ومنهم من يدعو للتظاهر استكمالاً لأهدافها.. وبين الفريقين يقف شعب لم يقل كلمته بعد. شعب يتضور كثير من أبنائه جوعاً وقلقاً علي المستقبل. شعب تصر نخبته علي فرض الوصاية والحديث باسمه.. لكن الأمل كبير أن تعود روح التحرير الأولي للجميع حتي نعبر أزماتنا وندرك وطننا قبل فوات الأوان..!!