قبل الثاني عشر من يوليو الفائت لم يكن أحد يسمع عن القس تيري جونز الذي يتزعم كنيسة صغيرة لا يتجاوز عدد أتباعها 50 شخصا. ولم يكن جونز - ذو الشارب الطويل الأشعث والعينين الغائرتين - وهو يطلق دعوته لحرق المصحف على "تويتر" يحلم بأن ينال هذا القدر من الشهرة، وهو الذي اعترف بلسانه أنه لا يعرف القرآن ولا يعرف ماذا يقول القرآن، لكنه يعرف ما يقوله الإنجيل عن القرآن!! لكن الدعوة كانت صادمة للغاية ومثيرة لاهتمام الجميع في ذات الوقت، فانتشرت كالنار في الهشيم، لدرجة أن اقتراح حرق القرآن أوجد أكثر من 13 ألف قصة مستقلة على "جوجل نيوز". دعوة جونز لاقت معارضة كبيرة على المستوى الرسمي الأمريكي وإن اختلفت الدوافع. فالجنرال ديفيد بترايوس قائد القوات الأمريكية في أفغانستان حذر من أن تنفيذ تهديد جونز بحرق نسخ من القرآن في الذكرى التاسعة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر قد يؤدي إلى هجمات انتقامية ضد القوات الأمريكية العاملة في أفغانستان.. نفس المخاوف عبر عنها الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي أجرت إدارته اتصالات بجونز لإثنائه عن مخططه، داعيا بني وطنه في الوقت ذاته للتسامح الديني مع المسلمين، لاسيما بعد أن دانت منظمة العفو الدولية جو "الاضطهاد" السائد ضد المسلمين في الولاياتالمتحدة في أعقاب تعرض سائق سيارة أجرة مسلم للطعن فى رقبته فى مدينة نيويورك، بالإضافة إلى الاعتراض الشديد على تشييد مسجد بالقرب من جراوند زيرو - موقع برجي التجارة العالمي اللذين دُمرا في 11 سبتمبر 2001. لكن أوباما لم يكتف بذلك، فأطلق وهو يحتفل بإحياء ذكرى هجمات سبتمبر من مقر البنتاجون تصريحات عقلانية متزنة ليؤكد أن بلاده "ليست ولن تكون في حرب مع الإسلام"، مشيرا إلى أن من اعتدى على أمريكا في ذلك اليوم من سبتمبر لم يكن هذا الدين وإنما تنظيم القاعدة. كذلك استنكرت شخصيات عامة في الغرب هذه الحملة المسعورة واعتبروا المساومة على وقف خطط إحراق القرآن مقابل نقل موقع مسجد نيويورك المزمع إقامته بالقرب من جراوند زيرو، اعتبروها مناقضة للمبادئ الأمريكية وحرية الأديان. العجيب أن رد الفعل الرسمي من الدول الإسلامية كان خافتا ومحدودا، وبدا لسان حالها يقول "للقرآن رب يحميه"! ورغم إعلان جونز راعى كنيسة "دوف وورد أوتريش" فى فلوريدا، تراجعه عن إحراق القرآن، فقد فتح بابا من الشر قد لا يُسد، بعد أن تهافت المتطرفون تهافت الفراشات على النار على حرق وتمزيق المصحف وانتقلت العدوى إلى ولايات تينيسى وكانساس. بل بلغ الاستهتار بالكتب المقدسة أن قام أستاذ في القانون من أستراليا بلف سجائر من صفحات القرآن والإنجيل وأشعل فيها النار وراح يدخنها أمام الكاميرا ل"تحديد نكهة أيهما أفضل".. على الجانب الآخر ، كان لدعوة جونز الخبيثة رد فعل قوي بين مسلمي العالم حتى تبنى بعضهم مبدأ المعاملة بالمثل، إذ حاول رجل أعمال مسلم بجنوب إفريقيا تنظيم يوم لحرق نسخ من الإنجيل. وهكذا انطلقت موجة جنونية من العبث بالمقدسات لا يعلم أحد كيف أو متى ستنتهي، وهذا كله لأن متطرفا عنصريا استبد به هوس الشهرة فأعماه عن احترام مشاعر أكثر من مليار مسلم، وانطلق لتحقيق هدفه غير آبه بما سببه من تأجيج لنار العداوة بين أتباع الديانات المختلفة. حقا .. الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها.