قناة السويس شريان الحياة، ليس لمصر فحسب، بل للعالم بأسره، وهى ممرٌ مائىٌ صناعىٌ يمتد من بورسعيد على البحر الأبيض المتوسط شمالًا حتى السويس على البحر الأحمر جنوبًا، بطول مائتى كيلو متر، وقد تضاعفت أهمية قناة السويس فى ازدهار التجارة الدولية بين الشرق والغرب فى الآونة الأخيرة، لأنها أقصر وأيسر وآمن بالمقارنةِ بطريق رأس الرجاء الصالح (رأس العواصف)، فالمسافة مثلًا بين الكويت ولندن عبر قناة السويس تبلغ 7488 ميلًا بحريًا، فى حين تبلغ هذه المسافة عبر طريق رأس الرجاء الصاح 13473 ميلًا بحريًا، وتبلغ المسافة بين ميناء جدة فى المملكة العربية السعودية على البحر الأحمر وميناء كونستانزا فى رومانيا على البحر الأسود عبر قناة السويس 1698 ميلًا بحريًا، بينما تبلغ هذه المسافة عبر طريق رأس الرجاء الصالح 11771 ميلًا بحريًا، وبذلك فإن قناة السويس تحقق وفرًا فى المسافة يصل إلى نسبة 76%. وبهذا الوفر تتمكن السفن من زيادة عدد رحلاتها، وينخفض -بالطبع- استهلاكها للوقود، وتقل كذلك أجور البحارة، وأقساط التأمين عليهم وعلى السفن وعلى البضائع المنقولة، فتنخفض تكلفة النقل وتنتعش التجارة، أما سلوك السفن طريق رأس الرجاء الصالح سيأتى بعكس نتائج الوفر الذى تحققه قناة السويس فى المسافة، ويؤدى -فى النهاية- إلى زيادة تكلفة النقل، مما سينعكس على السلع بالزيادة فى أسعارها. إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن فى أن أغلب دول العالم المستهلكة للسلع البترولية غير منتجةٍ له، وتعتمد اعتمادًا شبه كلى على استيرادها من مناطق إنتاجها فى الشرق الأوسط، والذى تحقق قناة السويس أكبر نسبةٍ من الوفر فى المسافة بينهما، وبازدياد تكلفة النقل عبر طريق رأس الرجاء الصالح، ستزداد حتمًا أسعار البترول، ونظرًا لاعتماد الصناعة فى العالم على الطاقة الناتجة عن المنتجات البترولية بشكلٍ أساسىٍ لا بديل عنه، فإن تكلفة المنتجات الصناعية ستزداد هى الأخرى، وبالتالى ستزيد أسعارها فى أسواقها المحلية، وبإضافة الزيادة الناتجة عن زيادة تكلفة النقل، فإن أسعارها ستتضاعف فى أسواقها الخارجية، كما أن الزيادة الناتجة فى أسعار البترول ستؤدى إلى زيادة تكلفة النقل لاعتماد السفن على منتجاته كمصدرٍ أساسىٍ للطاقة اللازمة لها، الأمر الذى سيدخل شعوب العالم فى دائرةٍ مغلقة من زيادة الأسعار، وكساد التجارة الدولية، وتقلص القطاعات الصناعية فى غالبية الدول، وارتفاع معدلات البطالة نتيجةً لذلك، وهو ما سيزيد معاناة الشعوب لاسيما الفقيرة منها. إن الوضع الراهن فى مصر، وتحولها من الدولة إلا اللادولة، فى ظل انقلاب عسكرىٍ لم تعترف به الغالبية العظمى من دول العالم، يضع على عاتق المجتمع الدولى مسئوليةً كبرى باعتباره صاحب المصلحة الأولى فى الحفاظ على سلامة المجرى الملاحى لقناة السويس؛ لأن الانفلات الأمنى الذى تعانيه الدولة المصرية منذ وقوع ذلك الانقلاب، وتردىَ الوضعُ الأمنىُّ فى شبه جزيرة سيناء - الحد الشرقى للقناة - واستمرارَ المدُ الثورىُ لثورة الخامس والعشرين من يناير ضده فى كل ربوع مصر، يشكل خطرًا متزايدًا على الملاحة فى القناة، إذ لا يوجد نظامٌ أمنىٌ - مهما بلغ احترازُه - يستطيع إحكام سيطرته كليًا على مجرىً مائىٍ يقارب طوله المائتى كيلومترًا، فإذا كان النظام الأمنى -فى مواجهة ثورةٍ شعبيةٍ غاضبةٍ- مهلهلًا ضعيفًا منشغلًا بحماية وجود النظام الانقلابى الذى يعمل لحسابه، فإن احتمالات وقوع ما يعكر صفو أمن القناة من اعتداءاتٍ أو عملياتٍ انتحاريةٍ أضحى كبيرًا وقريبًا للغاية، ناهيك عن الوضع الإقليمى للقناة فى الصراع العربى الإسرائيلى، واحتمالات انتهاز إسرائيل فرصةَ تردى الأوضاع فى مصر لاستعادة أحلامها التوسعية فى سيناء، وهو ما يشكل أكبر خطرٍ على الملاحة فى القناة، والحل الوحيد لضمان عدم المساس بها، هو استعادة النظام الشرعى الدستورى صاحب الأغلبية الشعبيةِ القادرةِ على تحقيق الدرجة القصوى من الحماية لها. _____________________________ رئيس محكمة المنصورة الابتدائية وعضو المكتب التنفيذى لقضاة من أجل مصر