تصحيح المفاهيم.. الحجة القوية.. الجمال والإبداع.. ونظرية الإلحاح "أربعة" مسارات ثقافية هامة لكسر الانقلاب د. حامد أبو أحمد: لم ينجح الانقلاب في ضم اتحاد الكتاب إليه حتي الآن. أحمد حسن محمد: دور المثقف الوطني بديل لدور الإعلام المضلل والزائف. ناصر صلاح: الانقلاب يستميت في منع كافة الأصوات الأدبية والفكرية بحجة "الإرهاب" عادة ما يمثل حديث الثقافة رغم أهميته رؤية نخبوية للأمور، تعتمد علي بناء الوجدان والوعي الممتد والطويل الأمد، لا المباشر أو الآني مما تستلزمه المشكلات الراهنة والتي تتطلب ممارسات سريعة للحل. ولكن وبتخصيص القول علي ما تعانيه البلاد حاليا من وضع كارثي، نجد أن بالانقلاب مساحة كبيرة ارتبطت ببناء ظهير شعبي عبر المداخل الوجدانية والثقافية، ومن ثم ففي المواجهة لابد أن تتقدم نفس تلك المساحات إلي خطوط الدفاع الأولي كعوامل هامة أيضا في تكوين الوعي المضاد للفكرة الانقلابية، وكذلك تصحيح ما أنتجته تلك الفكرة من ضلالات وأوهام فكرية. ولأن حديث تصحيح الوعي كهدف مباشر هو كتلة واحدة منغلقة تحتاج إلي التفتيت من جهة، والربط بالواقع من جهة أخري، وعندها سنخرج ببعض الملامح لتلك المسارات الثقافية التي نواجه بها الوعي الزائف. (1) تصحيح المفاهيم وهو ما يعني وضع المعاني في أطرها المعجمية والإصطلاحية المناسبة لها، فجزء كبير من آليات الغفلة الشعبية هي الربط بين دال ومدلول غير مناسب له، مثل القول بأن قيام عسكر بعزل رئيس شرعي منتخب هو ثورة شعبية، أو أن المتظاهر المسالم أو المعتصِم الذي يطالب بحقه في عدم ضياع صوته الانتخابي هو "إرهابي" علي المجتمع التخلص منه، والأهم من ذلك هو الرضا والسماح بتغير العقيدة لدي المواطن البسيط أو لدي جندي في جيش مخصص للدافع عن أمن البلاد، أن يقبل هذا أو ذاك أن تكون معركته داخلية مع أبناء وطنه بلا محاكمة ولا قانون، ولكن فقط بأوامر عسكرية. هذا بخلاف مفاهيم "الهوية"،"الشرعية" و"الدولة المدنية الحديثة" في مقابل النموذج العسكري المفروض. كذلك فقاسم هام أيضا في قضية المفاهيم يكمن في جلب مصطلحات هامة للمرحلة والدفع بها في سياقاتها المناسبة مثل "إزدواجية المعايير" في التعامل مثلا مع جانب من الشعب بالود والهدايا، ومع جانب آخر بالقنص والقتل، وما قد يبشر به ذلك من ترسيخ معاني الفرقة والمخاصمة بين أبناء الوطن الواحد. وبالتالي يكون إعادة ضبط المعجم الدلالي هام جدا في إيقاظ الوعي وإزاحة حاجز الرؤية من فوق أعين الكثير من أبناء الشعب. (2) البناء الإقناعي بالدليل والحجة فلا مراء أن اللغة العقلية أصبحت عاملا هاما خاصة في عصر العلوم والتكنولوجيا، وقبل ذلك هي لغة لا تقبل الرفض ومن ثم تحقق درجات عالية من القبول، ومن آليات ووسائل الحجج والأدلة استخدام "لغة الأرقام" مثلا في وصف المجازر أو ضحايا الانقلاب، وأيضا لغة "التاريخ" بذكر ما آلت إليه بلاد أخري في ظل الانقلابات العسكرية، وما أدت إليه في التاريخ المحلي من تراجع علي مستويات السياسة والاقتصاد والأمن القومي خاصة عندما صاحبها كبت ومصادرة للحقوق والحريات. هذا فضلا عن الربط بين شخصيات "القوي الفاعلية" المساهمة في الانقلاب وبين تاريخها ومصالحها الذاتية وتطلعاتها. كل ذلك مما لا يبقي معه حجة لمن يريد أن يري وجه الحقيقة رأي العين. (3) الإطار الجمالي والإبداعي للحقائق ولأن للإنسان مداخله الوجدانية التي لا يمكن تجاوزها، بل تعد من قبيل طاقة السماح بتسرب المعاني وإلصاقها بالنفس بما يضمن تشبع الوجدان بها وتحولها إلي طاقة دفع إيجابية في العمل، خاصة إذا ما اقترنت بما سبقها من حجج وأدلة عقلية، فتكون جماليات ذات إقناع ومن ثم ذات تأثير. فالإطار الجمالي هو وضع الحقائق في ثوب يحقق متعة لدي المتلقي مثل اللوحة أو الشعر، أو الأنشودة، أو الدراما. وهو فضلا عما يمثله من قدرة إقناعية إلا أنه في الوقت نفسه يعمل علي استدعاء المعاني وعصفها من نفوس الأفراد فيقوي بذلك خندق الحق وأهله، نتيجة تداعي الإبداعات وتعدد طرق التعبير المتاحة. (4) الاستمالة بالإلحاح وهي النظرية التي تنجح بها وسائل الإعلام في تمرير أي أمر ولو حتي كان غير مقبول عقلا أو منطقا، ولكن عن طريق تكراره وملاحقة الجماهير به وتعدد طرق عرضه، فإن كثير من الأفراد -خاصة ممن لا يملكون حجة مضادة- يسلمون لما يتم ترديده، ويتناقلونه كما الأمر الواقع من كثرة التداول. ولذا فهو آلية إن استخدمها وركز عليها أصحاب الشرعية سيحققون نجاحات منقطعة، خاصة لأنهم سيستخدمونها فقط لتثبيت أفكار لها ما يدعمها من الحجة والدليل والعقل، وليست فقط تكرارات لإملاءات مضللة. وتبدو أهمية تلك الوسيلة مرتبطة بأمد الانقلاب الذي لا يعلم أحدا متي ينتهي، ومن ثم فاستمرار رفضه بل والإلحاح عليه يوما بعد يوم يمنع من تثبيته لأركانه، ويسمح لقطاع كبير من الشعب المغيب أو السلبي بالانضمام لصفوف مؤيدي الشرعية. جوانب ثقافية متعددة وفي إطار حديث المسارات الثقافية ومواجهتها للانقلاب يقول د. حامد أبو أحمد-عضو مجلس إدارة اتحاد الكتاب والأستاذ بكلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر- أنه من الأهمية إقامة وتفعيل اللقاءات والمنتديات الثقافية والأدبية التي تناقش الانقلاب وتزيد الوعي برفضه، ومن آليات ذلك مناقشة الكثير من الكتب التي تؤرخ لثورة 25 يناير باعتبارها الثورة الحقيقة التي ضمت كافة التيارات وكونت زخما شعبيا موحدا رافضا لنظام استبدادي قمعي، وذلك للمقارنة بين هذا الوضع وبين ما جلبه انقلاب 30 يونيو وما صنعه من فرقة. وكذلك التتبع التاريخي لتأثيرات الانقلابات في العالم، وكيف خرجت منه بلاد كثيرة مثل دول أمريكا اللاتينية وأسبانيا، وذلك عن طريق الوفاق المجتمعي والمصالحات وإشراك كافة الطوائف في إدارة البلاد حتي الأقليات. ويتابع-حامد- مشيرا إلي أنه وبتحليل الوضع الحالي، فالجانب الثقافي سواء علي مستواه النخبوي أو الشعبي يكرس حتي الآن لرفض الانقلاب، فعلي مستوي الرؤية الثقافية النخبوية، وعلي سبيل المثال، فشل اتحاد الكتاب حتي الآن في عقد اجتماع يحظي بالنصاب القانوني علي مدي شهرين كاملين، فهناك ما يشبه المقاطعة من قبل مجلس الإدارة إلا قليلا، فعدد أعضاء المجلس 30 ولا يذهب إلي الاجتماع في أفضل التقديرات سوي ما بين 12 إلي 14 فقط، في حين أن النصاب لا يكتمل إلا بالنصف+1، أي 16 علي أقل تقدير، وهو ما يعكس حالة الرفض علي مستوي النخبة المثقفة، وليس كما يصوره –محمد سلماوي- ويحاول فعله من جر الاتحاد إلي دائرة الانقلاب العسكري، في حين أن حقيقة الأمر الرفض الواضح من الكُتاب. ومن جانب آخر وعلي مستوي الثقافة الشعبية فالمسيرات والتظاهرات التي تخرج يوميا هي في ذاتها إيقاظا للوعي الشعبي الرافض للانقلاب، والذي يتأكد يوما بعد يوم، وتؤكد عليه تلك المسيرات وتدعمه وتضم إليه أطيافا شعبية جديدة كل يوم. آليات تنفيذية ومن جانبه يري أحمد حسن محمد –أديب وفنان من السويس- أن دور الكتاب والأدباء هام جدا في تلك المرحلة خاصة لما حدث مما يمكن تسميته بال"الانفصال الشبكي" لشريحة من المجتمع عن الحقيقة أو الواقع الذي من المفترض أن يكون متاحا عن طريق الإعلام؛ ولذا بات المفكرين يمثلون هذا الوعي البديل للعمل الإعلامي المضلل؛ فدور النخبة المثقفة ليس الانعزال حول الذات وإنما في استنهاض الوعي الجمعي لدي الجماهير، وتوجيه ذلك التوجيه الصحيح. ويأتي هذا عن طريق فتح ساحات التواصل جميعها بين المثقف والجمهور سواء في اللقاءات المباشرة، أو الإعلامية، أو عن طريق استثمار التواجد الشعبي الكبير علي مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات، فالمثقف لديه مقدرة في الحديث والإقناع وله من إطلاعه وخبرته ما يؤهله لممارسة دور توعوي هام في كافة مساحات الإلتقاء الجماهيري. ويتابع-أحمد- مؤكدا علي أهمية أن يتنادي الأدباء والمثقفين لتكوين صالونات ثقافية مناهضة للانقلاب، خاصة في ظل تبعية صالونات الثقاقة الحالية –خاصة في السويس-لنظام الانقلاب نظرا لسيطرة الدولة عليها، مما يعني أهمية وجود ساحات بديلة لتواصل وتفعيل الدور الأدبي والفني. خاصة لما لمسناه من أثر الدور الفني خاصة في شكله الغنائي المتداول حاليا، والذي هو في أصله كلمات مكتوبة نجحت في الوصول إلي الجماهير وإيصال رسالة بشكل جمالي وسريع. وفي الإطار نفسه وحول بعض الوسائل التنفيذية المختلفة من جانبه –يضيف –أحمد- أحاول دمج قيم الفن التشيكلي-من انتخاب لقطة مريحة للعين، وتنسيق العناصر، وجماليات الألوان- ومن ثم استثمار ذلك في تعزيز قيم ومعان معينة خاصة في "البوسترات" المتداولة، أيضا أعمل علي دمج المقالة مع الصورة لإرضاء فصيل كبير من الجمهور قصير النفس في المتابعة والقراءة وتؤثر فيه الصورة بشكل أكبر، وهو ما يناسب جماهير مواقع التواصل الاجتماعي. الروابط الأدبية ومن جانبه الشاعر -ناصر صلاح- المشرف علي ملتقي الوعد الأدبي- وأحد مؤسسي ائتلاف أدباء وكتاب ضد الانقلاب- يقول أنه وفي ظل هذا الانقلاب الدموي، من الصعب جددا تفعيل أي منتدي أو ندوة أدبية خاصة إذا كانت ستدور حول أدب المقاومة بمعناه الواسع، والنتيجة لذلك أنه لدينا بالفعل العديد من اللقاءات والندوات لا نستطيع إقامتها، والدليل علي هذا التضييق أني أشرف علي خطة ثقافية سنوية لمركز –سعد زغلول الثقافي- بدأت منذ شهر يونية الماضي، وممتدة حتي شهر مايو القادم، والندوة التي كان من المنتظر إقامتها هذا الشهر كانت لمناقشة الشاعر –سيد جلال- في ديوانه الأخير "لحظات ما قبل دخول الجنة"، فإذا بنا نفاجئ باتصال عميد من "الأمن القومي" لرئيس المركز، يستنكر عليه التعامل معي بحجة "ده إرهابي، ومن معه إرهابيين" علي حد قوله، ولأن رئيس المركز يعرفني منذ سنوات حيث أشرف علي تلك الخطة الثقافية لسنوات مضت، ولذا فقد دافع عني، وأكد علي تبرئتي من كوني "إرهابي"، وتمكننا –بفضل الله من إقامة الندوة- ولكن هذا يعني أن التواجد "الأمني" يريد أن يحجر علينا أي تواجد حتي في مركز من المفروض أنه تأسس ليمثل فكرة التجمع في –بيت الأمة-فما بالنا في المنتديات الأدبية والصالونات الخاصة، مثل "أدباء وكتاب ضد الانقلاب" أو "منتدي الوعي" وغيرها من الإئتلافات، والتي قد بدأت بالفعل في ساقية "رابعة" في تدشين نشاطاتها ولكن منذ مجازر الفض إلي الآن لا نستطيع إقامة ندوة أو لقاء خاص، وكل ما نفعله هو إصدار البيانات. ويتابع-أمين- ويؤكد أن البديل الحالي هو الانخراط في نوادي الأدب وفي قصور الثقافة، وهي أماكن تتيح سماع كافة الآراء خاصة في الأندية التي يعرف فيها الأدباء بعضهم البعض، ويسمحوا فيها بشكل شخصي لكل أن يعرض ما عنده. فبعض القائمين علي تلك الأندية قد يتعاون معنا خاصة مع كشف الانقلاب عن وجهه الحقيقي وتراجع الكثيرين عن تأيده، في حين أننا لا نستطيع أن ننكر أن هناك البعض الآخر قد يكتب تقريرا لقوات الانقلاب يشي فيه بمن يتحدث. ومع ذلك وفي ظل هذا التعنت والتضييق الشديد فالأدباء يحاولون أن يُفعلوا دورهم حتي في الشارع، أو في وسائل المواصلات، فلو أن اثنين أو ثلاثة أدباء إلتقوا في "المترو" لحولوه إلي ندوة أدبية، فالمثقف لا يحتاج إلا إلي التواجد الدائم وسط الناس. ولذا وبعد أن كانت لنا لقاءاتنا المحدودة في ندواتنا الخاصة، فالآن نحن متواجدون في لقاءات الآخرين ننتشر فيها بحسب الاستطاعة، وفي القريب العاجل في انتظار عودة لقاءات أدباء ضد الانقلاب ورابطة أدباء الحرية. ويضيف –أمين- أن هذا هو أكثر الاوقات لحلول الهم والمدخل الثقافي في الوجدان العام، فالشعر في أساسه نشاط مقاوم، ومعه كافة الألوان الأدبية التي يقع فيها الآن فكر المقاومة في المرتبة الأولي.