تأتى ذكرى الإسراء والمعراج والعين تبكى والقلب يدمى، والنفس حزينة على تدنيس القردة والخنازير وعبد الطاغوت هذا المكان الذى بارك الله حوله، فأى ألمٍ يعتصرنا؟! وأى هوان على الناس نعيشه؟! أصبحنا حقًّا كثر، ولكننا كغثاء السيل، وما يزيد على مليار مسلم ألسنتهم تنطق بلا إله إلا الله.. محمد رسول الله.. يرون ما يرون صباح مساء من الغطرسة والتعالى والجبروت وانتهاك الحرمات والمحرمات، وفرض الآراء حتى عاد إلينا مرة أخرى من يقول {مَا أُرِيكُمْ إلا مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)} [غافر]، فإذا تكلَّم فلا رادَّ لكلامه، ولا نقاش لقراره، ولا يستطيع كثير من الحكام أن يقولوا له: سمعنا وعصينا والتى يُردِّدونها صباح مساء إذا أمر ربنا ونهى {فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} [النساء]. أتَذَكَّر هذا فى ذكرى الإسراء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب إلى الطائف يبحث عمَّن يدخله فى جواره أو يكفَّ أذى المشركين عنه، فلا يجد إلا السخرية والاستهزاء والإيذاء، فتوجَّه إلى الله تعالى بعد خذلان القول له يقول: "إليك أشكو ضَعْف قُوَّتى، وقلَّة حيلتى، وهوانى على الناس".. يناجيه ويعلن استمساكه بالطريق مهما كَلَّفه ذلك الكثير، ولا يشغله صلى الله عليه وسلم سوى: "إِنْ لَمْ يَكُن بِكَ على غَضَبٌ فلا أُبَالِى". ويموت أبو طالب الذى كان يمثِّل العون المادى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتموت خديجة رضى الله عنها العون المعنوى له صاحبة الكلمات المنيرة "والله لا يخزيك الله أبدًا يا رسول الله"، وينتهى العون المادى والمعنوى والبشرى وهو صلى الله عليه وسلم فى أشدِّ حالات الكرب والشدَّة، ويأتى الفرج من السماء لا بصاعقة كصاعقة عاد وثمود، ولا بريحٍ صرصرٍ عاتية، ولا بآية نادية، ولكن يأتيه الفرج الذى سيكون مفتاحًا لباب الخير الذى يَلِجُه كل من مسَّه الضرّ أو ضاقت به الأرض بما رَحُبَت أو ابتُلِى بأعداء الإسلام تنكيلًا وتقتيلًا، هذا المفتاح هو الصَّلاة، الصِّلة بين كل مكروبٍ وبين خالقه؛ ليكشف الغمَّ ويزيل الكرب، ثم يبدأ بالأخذ بالأسباب إعدادًا وترتيبًا، وهو يقول: {ومَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ولَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ (12)} [إبراهيم]. فما أحوجنا إلى أن نَلِجَ هذا الباب الذى يوصلنا للتَّقْوَى {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2)}[الطلاق]، {بَلَى أن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا ويَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} [آل عمران]. هذه الصَّلاة التى فرضت فى هذه الليلة المباركة، هذه الصلاة التى صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنبياء والمرسلين فى هذه الليلة المباركة التى علَّمتنا وأعلمتنا أن إمامة العالم هى لمحمد صلى الله عليه وسلم {ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء]؛ كى نعى الدرس ونحسن الصلة بالله عز وجل. فيا أيها المسلمون: تعلَّموا من دروس الإسراء الكثير، تعلَّموا وتيقَّنوا أن قدرة الله لا تَحُدّها حدود ولا يعجزها شىء فى الأرض ولا فى السماء ف{سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1)} [الإسراء]، إنه الاعتماد على الله سبحانه، وتوثيق الله به ليكفينا. فلو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتصرت دعوته وأبو طالب وخديجة على قيد الحياة لربما يقول الناس يومها لولا أبو طالب ما انتصر، فشاء الله تعالى أن يتجرَّد الرسول صلى الله عليه وسلم من كل قوة إلا قوة الله الباقية؛ حتى يكون الاعتماد على الله وحده، مع الأخذ بالأسباب المتاحة.. يومها سينصرنا الله عز وجل، وهذا النصر ليس فى الدنيا فحسب، بل فى الدنيا والآخرة {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51)} [غافر]. وتأتى علينا ذكرى الإسراء والمعراج والعين تبكى على حال المسلمين، والقلب يدمى لما وصلوا إليه من ضعفٍ وهوان؛ حتى كأننا نرى رأى العين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحقَّق فى أيامنا هذه: غُثَاء كغثاء السيل، نزع الله المهابة من قلوب أعدائنا وقذف فى قلوبنا الوهن، وأصبحنا نُحِبّ الدُّنيا ونكره الموت، فتركنا ما فيه عزَّتنا وشرفنا ومجدنا وانتصارنا ألا وهو الجهاد فى سبيل الله الذى ما تركه قوم إلا ذلّوا، كما أخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونرى صدق ذلك فى فلسطين وما يحدث للمسجد الأقصى، والمسلمون الذين وصل عددهم إلى المليار وثلث المليار لا يَتَمَعَّر لهم وجه ولا يُحرِّكُون ساكنًا لما يرون من أهوال تحدث لإخوانهم فى فلسطين إلا من رحم الله، ولا تَسَل عن حكامهم فهم فى سباتٍ عميق، وكأنَّ احتلال الصهاينة للأرض التى بارك الله حولها وفيها الأقصى الأسير لا تعنيهم، فهل بعد هذا غثاء؟! إن دروس الإسراء والمعراج لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، ولكننا نقف مع درسٍ واحد من دروسها. إننا نسأل أنفسنا: ما الذى ينقصنا فى أيامنا هذه لتكتمل الشخصية الإسلامية التى تواجه اليهود، بل وملاعين الدنيا كلها من صليبيين وشيوعيين وملاحدة؟ كأنى أرى ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ليلة الإسراء والمعراج من رؤى صادقة ومشاهدة مثيرة تؤكِّد أن الجانب الأخلاقى هو الذى ينقصنا وهو ثمرة العقيدة التى تملأ جوانب النفس وتُطَهِّر القلب، وتُخضع الجوارح لأوامر الله سبحانه وتعالى، فلا تفعل إلا المأمور به ولا تترك إلا المحظور، ولا تتحلَّى إلا بأمهات الأخلاق؛ لتصبح شخصية إسلامية أخلاقية تُبدِّد ظلمات الكفر بنور إيمانها، وتهزم الكافرين بقوَّة عقيدتها، وتفتح القلوب الغُلْف والأعين العمى بكمال قيمها وأخلاقها؛ تأكيدًا لما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذه الليلة الميمونة. وكأنى بهذه الرِّحلة الرَّبَّانية تؤكد الجانب الأخلاقى –كما قلت– بالرغم مما فيها من آيات كبرى ومعجزات عظمى أبهتت الكافرين وثبتت المؤمنين {ومَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إلا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ والشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِى القُرْآنِ ونُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)} [الإسراء]، وتأمَّل معنى ما شاهده الرسول صلى الله عليه وسلم من سوء العاقبة للذين تثاقلت رءوسهم عن الصلاة، أو الذين لا يُؤَدُّون الصدقات، أو مرتكبى الزِّنا ومقترفى الفواحش ما ظهر منها وما بطن، أو خطباء الفتنة أو الهمَّازين والمشائين بالنَّمِيمة الذين يلقون الكلمة من سخط الله لا يبالوا، أو آكلى الرِّبا، وغير ذلك من المشاهد والمواقف التى يجب على المسلم أن يتحرَّز منها، بل ويجتنبها ليكون من الذين قال فيهم {وعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وإذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهلونَ قَالُوا سَلامًا (63) والَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وقِيَامًا (64) والَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًا ومُقَامًا (66) والَّذِينَ إذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ ولا يَزْنُونَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إلا مَن تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70)} [الفرقان]. تدبَّر هذه المشاهد، وتأمَّل الصورة الأخلاقية التى يتحلَّى بها عباد الرحمن والذين يجرى المولى النصر على أيديهم، واربط بينهم وبين إسراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ورؤاه لهذه المشاهد اللاأخلاقية، وكأنى برسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطبنا اليوم ويلفت نظرنا بما حدث، ففى هذه الليلة المباركة التى نتعلم من ضمن دروسها أنه من أراد أن يُطهِّر هذه الأماكن المقدَّسَة من رجس اليهود وطغيانهم عليه أولًا أن يُطَهِّر نفسه، ويُحْسِن الصِّلَة بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الذين سينطق لهم الحجر والشجر ويقول لهم: يا مسلم.. يا عبد الله.. خلفى يهودى تعالَ فاقتله، هم {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء: 5]، ومن هنا كانت وسيلة تحقيق تلك الصلة بين هؤلاء العباد وبين ربهم هى الصَّلاة التى فُرِضَت فى هذه الليلة والتى هى معراج المسلم إلى ربه والتى هى قُرَّةُ العَيْن حين يقف المؤمن بين يدى ربه سبحانه وتعالى. إن فى قيم الإسراء والمعراج لو تأمَّلناها ووضعناها موضع التنفيذ لكفتنا للنهوض من رقدتنا والوقوف على أقدامنا، ولنحقِّق نهضتنا بتغيير هذا الواقع المؤسف باستيعاب دروس الإسراء والمعراج، وما فيها من قيمٍ وأخلاقٍ ودروسٍ وعِبَرٍ وطبَّقْناها فى حياتنا تطبيقًا سليمًا، وبهذا تكون الذكرى عاملًا لتغيير الواقع، وليست تاريخًا نتسلَّى به ونُمَصْمِص له الشِّفَاه، ويهتزُّ لها الوجدان، ثم ننسى ونستمر فى النسيان حتى تعود لنا الذكرى مرة أخرى فى عام قادم. إن الذكرى تاريخ، والتاريخ فى الإسلام؛ لتثبيت الفؤاد واستخلاص الدروس المستفادة منه، ولتتضح الرؤية ويتأكد المنهج فنستمسك به، وبذلك تصبح هذه الذكرى ليست ذكرى المسجد الأسير ولا الشعب الفلسطينى البطل الصادق كالطَّود الأشمّ فحسب، بل هى ذكرى الأخلاق الحميدة التى يجب أن يتحلَّى بها المسلم أولًا، والأخلاق السيئة التى يجب أن يقلع عنها، فإذا وجد الفرد الصالح وُجِدَت معه الأسرة الصالحة، فالمجتمع الصالح الذى ننشده وكل أسباب النجاح، ويومها يتطهَّر المسجد والأرض المباركة من رجس يهود حين يتحقق على أرض الواقع {التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ والْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ (112)} [التوبة]، بهذا نُذكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.