يقول الإمام البنَّا رضى الله عنه: (وأريد بالتضحية: بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شىء فى سبيل الغاية، وليس فى الدنيا جهاد لا تضحية معه، ولا تضيع فى سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل، والثواب الجميل، ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم "إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوَالَهُم"، "قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ"، "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ"، "فَإن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا"، وبذلك تعرف معنى هتافك الدائم "والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا"). لقد حمَّل الله تبارك وتعالى المسلمين أعظم وأثقل أمانة "وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا". ولكى يُؤَدُّوا هذه الأمانة خير أداء، وينهضوا بالمسئولية، فرض الله عليهم الجهاد فى سبيله، الجهاد بمعناه الواسع الشامل حتى تحيا الدعوة. وطلب منهم بذل التضحيات فى سبيل الله تعالى من أجل نصرة دين الله عز وجل، ولقد ربَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على الجهاد فى سبيل الله، والتضحية فى سبيل الله بكل غالٍ وثمين من أجل نصرة هذا الدين، وكان صلى الله عليه وسلم إمامًا لهم فى الجهاد والتضحية، من أجل هذا دعا الإمام الشَّهِيد إخوانه إلى الجهاد الدائم، والتضحية الغالية من أجل نصرة دين الله تعالى، فإنه لن تصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولن تُعَزّ هذه الأمة إلا بما عزَّ به أولها. ومن أراد الصلاح والإصلاح والمجد والعِزَّ بغير جهادٍ وتضحية فهو حالمٌ واهم. وَمَنْ طَلَبَ العُلا من غيرِ كَدٍّ *** فقدْ أضاعَ العُمْرَ فى طَلَبِ المُحَالِ التضحية المطلوبة: كل من رضى بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً مطلوب منه بذل وتضحية. وكل من نذر نفسه وعاهد ربه على العمل للإسلام والجهاد للإسلام مطلوب منه بذل وتضحية غالية. وهذه حقيقة يجب أن تكون واضحة كل الوضوح أمام الأخ المسلم، فعليه أن يُهيِّئ نفسه ويُعِدّها لتلك التضحية، فما تلك التضحية المطلوبة؟. لقد أوضحها الإمام الشَّهِيد بقوله: "بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شىء فى سبيل الغاية" نعم، هذه هى التضحية المطلوبة من الأخ المسلم، هذه هى التضحية التى دعا الله تعالى إليها، وربَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها. قال تعالى: "إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ والْقُرْآنِ ومَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِهِ وذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ" (التوبة: 111). "مَن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً" (البقرة: 245). سمع أبو الدَّحْداح رضى الله عنه هذه الآية فما وسعه إلا أن يتصدَّق بأحبِّ ماله وأغلاه. وهكذا نرى التربية النبوية يعيشها الصحابة بصورة عملية. - فهذا أبو بكر رضى الله عنه يُضحِّى ويبذل كل ماله، فيسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لعيالك؟ فيقول: تركت لهم الله ورسوله. - وهذا صهيب رضى الله عنه يُضحِّى بكل ما يملك من أجل نصرة دين الله تعالى، فينزل الله عز وجل فيه وفى أمثاله قرآنًا يُتْلى فيقول سبحانه: "ومِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ واللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ" (البقرة: 207). ويستقبله صلى الله عليه وسلم بقوله: "ربح البيع يا صهيب". - وهذا مصعب رضى الله عنه الفتى الشاب الثَّرى المدلَّل، يُضحِّى بكل شىء ويصبح آية من آيات الجهاد والتضحية للشباب المسلم فى كل زمان. - أولئك الصحابيات الجليلات رضوان الله عليهنّ جميعًا يبذُلْن ويُضحِّين من أجل الإسلام كذلك، فهذه خديجة، وأم سلمة، وأم سليم، ونسيبة، وأسماء.. لهنّ مواقف مشهودة، وحياة عامرة بالتضحية الغالية. وتاريخ الصحابة ملىء بصفحات التضحية والفداء، والبذل والعطاء من أجل نصرة دعوة الله عز وجل. لا جهاد بلا تضحية: هذه حقيقة يجب أن تَعِيَها الأفئدة بكل صراحة ووضوح، من أجل هذا نبَّه الإمام الشَّهِيد إلى معالم الطريق، ومتطلباته ليُعِدّ كل أخ عُدَّته. فمن ظنَّ أنه يمكنه أن يخدم الإسلام، ويساهم فى رفع راية الدعوة وهو يَضِنُّ بروحه وماله ووقته وأى شىء فليراجع نفسه، وليقرأ كتاب الله جيدًا، وليتأمل فى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مليًّا، ولينظر فى التاريخ، فإنه سيخرج بحقيقة هى أوضح من الشَّمس فى رابعة النهار: "لا حياة للدعوة إلا بالجهاد"، "ولا جهاد بلا تضحية". تضحية مأجورة: ومما يُطَمْئِن المؤمن ويدفعه للبذل والتضحية أن ما يفعله لا يضيع، بل يقابل بالإحسان وأعظم الجزاء، وأجزل العطاء من الله تعالى، فإنه القائل: "وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" (سبأ: 39)، "ولَئِن قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ ورَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ" (آل عمران: 157). إن أى شىء يبذله الأخ المسلم يُؤْجَر عليه سواء كان صغيرًا أو كبيرًا.. وقد ساق الإمام الشَّهِيد آية عظيمة فى هذا المعنى، وهى قوله تبارك وتعالى: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ ولا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إلا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ * ولا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً ولا يَقْطَعُونَ وادِيًا إلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (التوبة: 120، 121). إن كل ما يُقدِّمه المرء من تحمُّل للجوع والعطش، والألم والتعب، والخطوات التى يمشيها من أجل الدعوة والتى تغيظ أهل الكفر والطغيان، وكل ما يُسْهِم به من أجل نصرة الإسلام قليلاً كان أو كثيرًا، صغيرًا أو كبيرًا يحفظه الله لعبده ولا يضيع، ويقابل الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. فهنيئًا لأهل البذل والتضحية هذه العطايا الربَّانية، هنيئًا لهم ما يشعرون به من سعادة نفسية، هنيئًا لهم ما ينتظرهم من تكريم وحفاوة أخروية. إثم القاعدين عن التضحية: إن دعوة الله غالية، ومن يعمل لها هو الذى يُشَرَّف بذلك؛ لأنه يشعر حينئذٍ بوجوده وكيانه ويصبح ذا وزنٍ وقيمة، وينال العزة والكرامة، ويتذوق حلاوة السكينة والطمأنينة؛ لذا فإن الرجال حقًّا لا يستطيعون أن يعيشوا بلا دعوة، إن الدعوة كذلك تحتاج إلى الرجال. ولما كانت الدعوة لا تحيا إلا بالجهاد، ولا جهاد إلا بتضحية، فقد وجبت التضحية، وحَرُم القعود والبخل ولحق صاحبه الإثم. هذا ما نطق به القرآن فقد قال تعالى: "قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِى اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِى القَوْمَ الفَاسِقِينَ" (التوبة: 24). وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ إلا قَلِيلٌ * إلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ويَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ولا تَضُرُّوهُ شَيْئًا واللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (التوبة: 38، 39). وقال تعالى: "هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ومَن يَبْخَلْ فَإنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ واللَّهُ الغَنِى وأَنتُمُ الفُقَرَاءُ وإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" (محمد: 38). وقال تعالى آمرًا رسوله أن يقول للمخالفين: "فَإن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وإن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" (الفتح: 16). لقد أدرك الإمام الشَّهِيد هذه المعانى، وعلم العاقبة الوخيمة التى تنتظر القاعدين؛ ومن ثَمّ أعلن بكل قوَّة وصراحة أن "من قَعَد عن التضحية معنا فهو آثم". كيف لا وقد توعَّدهم الله تعالى ووصفهم بالفسق.. كيف لا وقد توعَّدهم بالعذاب الأليم والاستبدال أكثر من مرة.. وها هنا أمر مهم يحتاج إلى تنبيه فى قول الإمام الشَّهِيد "ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم". فإنه يريد أن يقول: نحن -الإخوان المسلمين- نُضحِّى من أجل نصرة دين الله وغيرنا من المسلمين الصادقين، فالحمد لله على توفيقه، أما المسلم الذى لا يُضحِّى مثلما نضحِّى، بل يقعد ويتخلَّف عن البذل والتضحية فإنه آثم. ولا يقصد أبدًا أن يحصر التضحية المقبولة فيه ومن معه من الجماعة. ولا يرمى تضحية الآخرين من غير الجماعة بالضياع، ولا يحكم عليهم بالآثمين. فإنه كثيرًا ما يُثْنِى على العاملين للإسلام فى أى مكان بأى وسيلة ويتمنى لهم الخير، ويرجو لهم التوفيق، ويُردِّد كثيرًا قول الله تعالى: "ولِكُلٍّ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ" (البقرة: 148)، هذا مع اقتناعه بسُمُوِّ فكرته، وسلامة منهاجه، ودقَّة خطواته على ما سواها بلا فخر. والله أكبر ولله الحمد