إن هجرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم مليئة بالدروس والمواعظ والعبر، وهذا غيض من فيض، فالذى فى هذه المناسبة مناسبة الهجرة يهمنا فيها الدروس المستفادة ومردودها الدعوى والتربوى لمن أراد أن يجنى ثمرة هذه المناسبة العظيمة التى أرَّخ بها عمر بن الخطاب رضى الله عنه للمسلمين. ودروس الهجرة كثيرة ومتعددة ومتنوعة: تضحية بالنفس؛ حبًّا فى الشهادة ووضع الشعار الذى كان يردده صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم "فداك أبى وأمى يا رسول الله" موضع التنفيذ حتى يكون واقعًا مرئيًّا، وأقوالًا فعلية وعقيدة مطبقة، وكان رمزها فى الهجرة على بن أبى طالب رضى الله عنه، الذى نام على سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ليلة هجرته ليفتديه بنفسه. وتضحية بالمال فى سبيل الله، وإنفاقًا له فى إعداد راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاده.. هذا الإنفاق الذى وصل إلى حد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أبا بكر حين أنفق ماله كله فقال له: وماذا أبقيت لعيالك؟ فقال: (أبقيت لهم الله ورسوله)، وإلى درجة أبكت بعض الصحابة من عدم قدرتهم على الاستعداد للغزو، هذا الصنف الفريد الذى بكى انعدام ماله، وقلة حيلته حتى تجاوب الوحى معهم، فأنزل فيهم رب العزة {ولا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} ]التوبة: 92[. وتضحية بالأهل والولد والزوجة حين جُرِّد صهيب الرومى من كل ذلك ليحولوا بينه وبين هجرته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضى بهذا الحرمان، فأنزل المولى فيه {ومِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ واللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} ]البقرة: 207[. فاستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه البشرى "ربح البيع يا صهيب"؛ ذلك لأن للتضحية ألوانًا متعددة وأشكالا متنوعة: بالمال والوقت والجهد والأهل والعشيرة والنفس فى سبيل حماية العقيدة، ونشر الدعوة، وإقامة الدين وحفظه، فالتضحية هى بذل كل ما تملك وما تستطيعه من أجل حماية الدين والوطن والأرض والعرض والأمة الإسلامية. إن المجتمع المسلم الأول أقيم على أكتاف رجال ضحوا بكل ما يملكون، فكانوا أصحاب مواقف إيمانية برزت فيها معانى التضحية -بكل أنواعها- وتبعهم بإحسان رجال واصلوا المسيرة من التابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا، بل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ((لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم))، فلن تخلو الأرض يومًا من هذا الصنف المخلص؛ ليكونوا جند الله على أرضه، وتتحول بهم المبادئ والقيم والعقائد واقعًا على الأرض، يفتح الله به القلوب الغلف والأعين العمى والآذان الصم. إن المبادئ السامية تظلّ عالية فى عالم الذهن والفكر حتى يوجد من يمثلها فى عالم الواقع والسلوك، من الرجال والنساء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وعالمنا اليوم بفضل الله يشهد هذا الواقع ويشاهد هؤلاء الرجال، ليس سيرة ترددها الألسن، ولكن حقيقة تُرى بالعين فى فلسطين الحبيبة، والعراق المجاهدة، وأفغانستان المنكوبة، وغيرها من الأوطان والأقطار التى تآمر عليها الأعداء، ولن يخلِّص هذه الأوطان إلا هؤلاء الفوارس الشجعان. فهل أذكرك ببعض الأسماء التى خلَّدها التاريخ الحديث فضلًا عن القديم حتى لا تنسى، فأبدأ بالشهيد حسن البنا، ومحمد فرغلى، وعبد القادر عودة، ويوسف طلعت، وسيد قطب، أكتفى بهذه الرموز المعروفة، وأنتقل بك إلى من ضحوا بأنفسهم وساروا على نفس الطريق حديثًا، وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين، والدكتور عبد العزيز الرنتيسى، بل عز الدين القسَّام نفسه الذى تربى على يديه أمثال يحيى عياش وغيرهم من الأبطال المغاوير الذين سجلهم التاريخ بأحرف من نور والذين اقتدوا بعلى بن أبى طالب رضوان الله عليه وهو الصبى الفدائى. إن التضحية هى من أجل حق يؤمن به صاحب الهِمَّة العالية، وعقيدة يعتنقها ويخضع لها، مع علمه بهول الأخطار التى يتعرض لها فى سبيل ذلك، ولا يدفع إلى التضحية الصادقة إلا إيمان عميق، وحب وثيق، ويقين وطيد، بعقيدة دينية أو نزعة وطنية أو غيرة على حق أو حرمة أو حرية، والمضحى الأصيل لا يندفع إلى عمله البطولى لغرض أو عرض، ولا لمتعة ومنفعة، ولا لشهوة أو ذكر، ولا مجد أو اسم، ولكن ابتغاء مرضاة الله تعالى. فهل هناك أطهر وأسمى من التضحية لدين جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ليُظهره المولى على الدين كله ولو كره الكافرون؟! إنها تضحيات ثمنها الجنة {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ والْقُرْآنِ ومَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِهِ وذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ}]التوبة: 111[. إن ثبات أهل الحق على مبادئهم يحقق الهزيمة الداخلية لأهل الباطل لا محالة، وهذه أولى مراحل النصر، والدليل على ذلك من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه بعد أن مُنيت قريش بالفشل فى منع الصحابة رضى الله عنهم من الهجرة إلى المدينة على الرغم من أساليبهم القبيحة بل الشنيعة، وأدركت قريش خطورة الموقف، وما الخطورة؟ لقد تجسدت فى خوفهم على مصالحهم الاقتصادية، وكيانهم الاجتماعى القائم بين قبائل العرب. فماذا صنعوا؟ أرجو أن تتأمل وتفكر بتدبر لتربط بين منهج أهل الباطل قديمًا وحديثًا حتى تتأكد من وحدة المنهج والمسير، فالذين اجتمعوا حديثًا وعلى رأسهم أمريكا والدول الأوروبية والكيان الصهيونى واتفقوا على خطورة الموقف؛ لأنه يهددهم اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، ولا بد من تشاورهم واتحادهم للقضاء على الإرهاب، لهم أساتذة سبقوهم قديمًا حدثتنا السيرة النبوية عنهم: حين اجتمعت قيادة قريش فى دار الندوة للتشاور فى أمر القضاء على قائد الدعوة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. يحدثنا ابن عباس رضى الله عنهما فى تفسيره لقول الله تعالى: {وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} ]الأنفال: 30[، فقال: فتشاورت قريش بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، ويريدون النبى صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم بل اقتلوه، وقال بعضهم: أن أخرجوه، فأطلع الله نبيه على ذلك، فبات علىّ على فراش النبى صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبى صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليًّا ردَّ الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدرى، فاقتفوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم الأمر فصعدوا الجبل، فمرّوا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا لو دخل ها هنا لم يكن نسيج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاثًا. أليس هذا نفس الفكر الذى يحمله أهل الباطل فى زماننا هذا؟ فأين التعامل مع الآخر؟ وأين حرية الفكر؟ وأين التعددية؟ ألا فلتعلم من هذه المقدمة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يفكر أهل الباطل فيما يفعلونه مع مخالفيهم: السجن أو القتل، أو الإخراج من الأرض والبغى، أليس هذا هو عين ما يفعله ويفكر فيه الكارهون للإسلام ومشروعه ويخططون لتنفيذه هم ومن سار على دربهم؟! وما حدث بالأمس القريب أكبر دليل على صدق ما نقول، وهيهات أن يقفوا أغراضهم لأن مكر أولئك هو يبور وما حدث بفضل الله. وما أشبه الليلة بالبارحة، فلن يخلو زمان ولا مكان من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه تتمثل فيهم الفروسية والرجولة والتضحية كعلى بن أبى طالب، وها نحن نراهم رأى العين فى فلسطين الحبيبة، والعراق، وكل مكان أعلن فيه الجهاد لاستخلاص الحقوق الضائعة، بل فى كل مكان ترتفع فيه راية [لا إله إلا الله]، ظاهرين على الحق لا يضرّهم من خالفهم. أما المكر الذى نراه فليس أيضًا بجديد، فالآيات السابقة تتحدث عن مكر المشركين بالنبى صلى الله عليه وسلم؛ لتذكرنا بما كان فى مكة قبيل تغير الحال وتبدُّل المواقف، وإنه ليوحى بالثقة واليقين فى المستقبل، كما ينبّه إلى تدبير قدرة الله وحكمته فيما يقضى به ويأمر. لقد كان المسلمون الذين يخاطَبون بهذا القرآن أول مرة، يعرفون الحالين معرفة الذى عاش ورأى وذاق، وكان يكفى أن يذكّروا بهذا الماضى القريب، وما كان فيه من خوف وقلق، فى مواجهة الحاضر الواقع، وما فيه من أمن وطمأنينة، وما كان من تدبير للمشركين ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم فى مواجهة ما صار إليه من غلبته عليهم لا مجرد النجاة منهم. لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحبسوه حتى يموت أو ليقتلوه ويتخلصوا منه أو ليخرجوه من مكة منفيًّا مطرودًا، ولقد ائتمروا بهذا كله، ثم اختاروا قتله على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل ليتفرق دمه فى القبائل، ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها، فيرضوا بالدية، وينتهى الأمر. {ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} ]الأنفال: 30[. إنها قدرة الله تعالى الجبَّار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره وهو بكل شىء محيط، فيسبب الأسباب التى تؤدى للتمكين. إنها بُشريات لنا بانتصار الحق وأهله واندحار الباطل وحزبه، وهى سنَّة الله التى لا تتبدل ولا تتغير {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ} ]الأنبياء: 18[فهذه سنن الله تعالى فى أرضه، ولا يبقى إلا الرجال الذين يُجْرى المولى على أيديهم النصر وإزهاق الباطل. ويا حسرة على هؤلاء الذين حرقوا وهدموا مقار الإخوان!! نقول لهم: لا يزيده ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ} [آل عمران]. وستنتصر الدعوة وتعلو كلمة الله مهما مكر الماكرون، فالنصر قادم قادم لا محالة فى الدنيا قبل الآخرة {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم]. ----------------- الأستاذ/ جمعة أمين عبد العزيز نائب المرشد العام للإخوان المسلمين