لقد تحركت الدولة العميقة لمواجهة القادم الجديد، ورأت فيه من أول وهلة تهديدًا مباشرًا لمصالحها، سواء كان ذلك على مستوى مكة، أو حتى على المستوى العالمى، أو على مستوى قيادات الديانتين السماويتين، اليهودية والمسيحية. وكما سبق أن ذكرت فلقد كان رد فعل زعامة العالم المسيحى متمثلًا فى عمق الدولة الرومانية واضحًا واستباقيًّا حتى قبل ولادته، بإرسال حملة أبرهة عامل هرقل فى الحبشة لاحتلال مكة وهدم الكعبة، والعمل على منع ظهوره من الأصل، أو على الأقل القضاء على دعوته وهى لا تزال فى مهدها وبمجرد ظهورها.. لكن الله سبحانه وتعالى أحبط ذلك الكيد كما ذكر فى كتابه فى سورة الفيل. لكن أهل مكة استمروا هم وباقى العرب فى نفس شركهم وغيهم ونظمهم الظالمة التى سادت فيها أخلاق وعادات الجاهلية البغيضة؛ كوأد البنات، وكثرة الحروب المتبادلة لأتفه الأسباب، مما جعلهم قبائل متفرقة ومتنازعة بلا قوة أو وزن دولى. وعلى الرغم من أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- جاء لهم برسالة يستردون من خلالها إنسانياتهم وكرامتهم، ويصبحون من خلال قيمها السامية سادة لكل من فى الأرض حتى الفرس والروم، إلا أن الدولة العميقة قابلوها من أول وهلة، وبمجرد الإعلان على جبل الصفا بالتنكر والسخرية، رغم شهادتهم لمحمد بالصدق والأمانة، حتى عمه أبى لهب وزوجته قد أعلنا بشكل سافر رفضهما، بل سبهما له صلى الله عليه وسلم، كما سجله القرآن فى سورة المسد. ومنذ ذلك الحين بدأت الدولة العميقة تتحرك فى مكة ضد محمد ومن يتبعه، رغم انتظر منهم -على الأقل- إن لم يتبعوه فلا يمنعوه وأصحابه من عبادة الله الواحد الأحد بالشكل الذى أمروا به، كما جاء فى قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى دِينِ} [الكافرون]. لكن استقرت الدولة العميقة على أن محمدًا ودعوته يمثلان خطرًا داهمًا يهدد مصالحهم، ومن ثم ليس هناك إلا التصدى له بكل الوسائل، كما هى عادة عناصر هذه الدولة فى كل زمان ومكان. لقد بدءوا بحملة إعلامية ضارية ركزت على التشويه والتضليل وقلب الحقائق، وتسميم عقول مسبق لأى شخص يمكن أن يسمعه، سواءً من داخل مكة أو خارجها، فأشاعوا رسالة إعلامية خبيثة مفادها أنه ساحر يفرق بين المرء وزوجه، والرجل وابنه، والعبد وسيده، وأنه من الأفضل ألا تستمع له من الأصل فلا تضمن أن يسحرك، لدرجة أن امرأة عجوزًا كانت تحمل حملا ثقيلا فحمله الرسول عنها وأوصلها وجهتها، فقالت له أريد أن أسديك إليك معروفًا لجميلك، إذا قابلك شخص يدعى محمد فاحذره ولا تستمع إليه فإنه كذا وكذا...! فتعجب الرسول ثم سألها هل تعرفينه قالت: لا، فقال: أنا هو، فأسلمت. انظر إلى حجم الدعاية المسمومة التى لم تشوه وتضلل فكرة هذه المرأة عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- فقط، بل حولتها إلى حركة إيجابية شديدة الفعل ضد دعوته دون أن تدرى حقيقة ما يزيف حوله من كذب وافتراء الدولة العميقة الفاجرة. لم يتوقف الأمر عند مجرد الكذب والتشويه والتضليل بل تعداه إلى الإهانة المتعمدة، والنيل من أصحابه وهم إما من الشباب، أو العبيد الضعاف، فعذبوهم وسجنوهم، وقتل بعضهم سواء من الرجال أو النساء. لقد كانت الحرب من الشراسة لدرجة غير منطقية أو مبررة، فبعض قيادات الدولة العميقة أصحاب المصالح والامتيازات فى الوضع الراهن أمثال أبى جهل قالها صريحة ليست المشكلة هل هو صادق أو كاذب، وإنما الموضوع موضوع منافسة مع بنى هاشم، سقوا فسقينا، أطعموا فأطعمنا.. حتى إذا كنا كفرسى رهان قالوا منا نبى...فمتى ندرك ذلك؟ لم تكن المشكلة فى نقص أدلة على نبوته ولا نقص دلائل دامغة على صدق دعوته، لكن اعتبرت الدولة العميقة أن مجرد ظهور محمد بدعوته الجديدة وما تقتضيه من نظم جديدة تقوم على العدل، والمساواة، واحترام الإنسانية، وإعلاء الأخلاق والقيم الفاضلة، والرحمة.. إلخ، تهديدًا صريحًا ومباشرًا لمصالحهم وامتيازاتهم، فكيف يمكن أن يتساووا بالعبيد، والفقراء، إنهم يريدون ثبات نفس النظم والقواعد التى تكرس تلك الامتيازات، ولا مانع حتى من نزول القرآن ولكن على من يضمنوا أنه ينتمى إلى نفس قيم ونظم تلك الدولة العميقة، وهذا ما أثبته القرآن بوضوح شديد فى قوله: (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف: 31). فى الحقيقة لم تثمر هذه الحرب الضروس عن وقف الدعوة الجديدة وإن كانت وقفت عقبة كئود فى طريقها. فحاولوا اللجوء إلى الإغراءات وبدءوا فى مفاوضات مع عمه الذى كان فى حمايته؛ إن كنت تريد ملكًا ملكناك، وإن كنت تريد مالًا أعطيناك... لقد تخيلوا أن الأمر مجرد أغراض دنيوية مباشرة كما هى أقصى طموحاتهم، تأمل استعدادهم أن يجعلوه زعيمًا سياسيا عليهم شريطة أن يترك ما يدعوهم إليه. فكان رده حازمًا وقاطعًا: والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الدين لن أتركه أبدا حتى ينصره الله أو أهلك دونه. اشتدت الدولة العميقة فى مؤامراتها لدرجة اتباع أشد الوسائل خسة وفظاعة مثل، المقاطعة الشاملة له ولكل من يؤيده وحصارهم حصارًا شديدًا فى شعب أبى طالب لمدة ثلاثة أعوام كاملة منعوا عنهم الطعام، والشراب، وحتى الزواج، وأى منفعة لدرجة جعلتهم يتضورون جوعًا وكادوا يهلكون من شدة المعاناة حتى إنهم كانوا يأكلون من خشاش الأرض وجلود الحيوانات. ومع ذلك لم يثنهم ذلك عن عزمهم ودعوتهم، فكان الطرد والإبعاد، حيث لم يجد المستضعفون حيلة للحفاظ على أرواحهم وأزواجهم إلا الفرار بدينهم إلى الحبشة التى كان قد تولى الحكم فيها حاكم طيب عادل. لقد طالت أساليب الدولة العميقة شخص الرسول- صلى الله عليه وسلم- مباشرة وخاصة بعد موت عمه أبو طالب وزوجته الحبيبة خديجة وهم ركناه وعون وسنده من خلق الله. مما ألجأه صلى الله عليه وسلم إلى البحث عن مكان آخر قريب من مكة لعله ينجح فى توصيل الدعوة إليه وهو الطائف التى تبعد حوالى 100 ك جنوبمكة بجبالها الشاهقة ورجالها القساة الغلاظ الذين لم يجد منهم إلا تنكرا أشد، وبدلا من أن يكتموا عنه الأمر ولا يذيعوه، سلطوا عليه السفهاء والبلطجية (بلغة العصر) ليقفوا صفين ويزفوه بالهتافات السافلة، ويقذفوه بالطوب حتى أدمت قدميه وأصابته هو ومولاه زيد بن حارثة بعدة إصابات، إلا أن الجرح النفسى كان أشد وأنكى لدرجة جعلته صلى الله عليه وسلم وقف يدعو دعاءه الشهير الذى هز كل من فى السموات والأرض حتى عرش الرحمن، وهو يقول: "اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس..."، ولعل هذا الموقف الجلل يحتاج منا لوقفة بل ربما لوقفات خاصة لنغترف من فقه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مواجهته لدولة الكفر العميقة وهو يدعو إلى الله على بصيرة. أستاذ الإدارة الإستراتيجية بجامعة القاهرة www.almohamady.com