لا تتوافر عبر التاريخ الفرصة لشن حرب سياسية شاملة؛ لأنها إذا توافرت محاور هذه الحرب فذلك إيذان بانتصار من شنّها وهزيمة من شُنّت عليه . ولم يكن أعتى المحللين السياسيين يتصور أن المعارضة المصرية ستدير "حربا سياسية شاملة" ضد "النظام المنتخب"؛ حيث كان "النظام" و"المعارضة" رفاق ثورة واحدة على نظام بائد، لذا كان من المنتظر أن تكون الخلافات فى أُطُر سياسية يضمن فيها كل فصيل مركزا معتبرا فى التأثير على القرار السياسى. ولكن ما الذى حدث؟ الذى حدث أن "المعارضة" استيقظت على كابوس "الديمقراطية" التى أكدت لها أنها ستكون خارج "الحكم" دائما وفى موقع "المعارضة" دائما، ومن ثم فلا تغيير! فقد كانوا "معارضة" "لمبارك" والآن لا يستطيعون إلا أن يكونوا معارضة "للرئيس مرسى". وهنا كان القرار.. إنها "الحرب الشاملة".. وللمفارقة فإن هذه "الحرب الشاملة" قد توافرت لها كل ظروف وفرص النجاح لكى تستعيد "المعارضة" حلمها المسلوب، فى الانفراد بالحكم، حتى لو لم تكن تمتلك تفويضا شعبيا بذلك. وأما محاور "الحرب السياسية الشاملة" فقد كانت كالآتى: أولا: توفر مناخ التظاهر وسهولة الدعوة إليه كنتاج مباشر لقيام ثورة عبر التظاهر، وانكسار مركب الخوف المانع للاحتشاد. ثانيا: توفر حالة انعدام اليقين لدى الشعب الخارج لتوه من إسقاط نظام ومتوجه لنظام جديد، وتسرب حالة انعدام اليقين لدى شباب الثورة الذين يحلمون بتغييرات دراماتيكية مفاجئة تحول البلاد من (جحيم) إلى (جنة) فى أيام معدودات؛ مما يعجل بحالة اليأس إذا لم يتحقق حلمهم، ومن ثم يكون الخيار الثورى هو المرجح لاستعادة الأمل. ثالثا: ميراث من الفساد والظلم المتراكم الذى يسهل تحميله "للنظام" الحالى باستغلال حالة العوز وعدم توافر حياة كريمة للمواطنين، مما ييسر خداع "العامة" بتوجيه غضبها إلى "السلطة" الحالية، باعتبار أن "العامة" لا تملك رفاهية النقد السياسى الموضوعى الذى يبرئ "النظام" الحالى من هذه التركة، فالمحتاجون لا يبالون إلا بسد احتياجاتهم ولا يُنتظر منهم (موقف عادل)؛ حيث لم يتذوقوا (العدل) طوال حياتهم. رابعا: منظومة إعلامية قديرة، تمتلك النجوم والمواهب والحرفية والأموال، كما يمتلك أصحابها ثأرا مع الثورة التى يمثلها "النظام الحالى"، ومن ثم تتلاقى المصالح بسهولة لأن "عدو عدوى هو صديقى"، و"المعارضة" اشترت "الإعلام" وباعت "قيم وأهداف الثورة" لتكتسب سلاحا جديدا فتاكا فى حربها الشاملة على خصمها السياسى القابع فى "السلطة"، وليصبح الحديث عن "القيم الثورية والوطنية" كلاما عن ماض أو وهما من المستحيل، حيث "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". خامسا: بعد تحييد "القوات المسلحة" و"القضاء"، وعودتهما إلى مهمتهما المقدسة، أصبح "الخصم" الذى فى "السلطة" لا يمتلك قوة الردع المعهودة فى البلدان الديمقراطية، والتى يمكن اللجوء إليها إذا انتهكت "الشرعية الدستورية"، ومن ثم فإن ما صنعه "الرئيس" لصالح الشعب أصبح يستخدم ضده، ألا وهو إخراج "الجيش" من الممارسات السياسية، وإعادة القضاء إلى منصته، وإذا كان الجيش قد استجاب، فإن بقايا رذاذ من"نادى القضاة" ما زالت تنتشر با?جواء. سادسا: الشرطة المنكسرة بسبب كون الثورة فى البداية كانت ثورة على الظلم الذى تُستخدم "الداخلية" فى تكريسه، ولم يكد "الرئيس" يبدأ تنظيم "الشرطة" عقيدة وسلوكا، إلا وهجمت "المعارضة" عليه قبل أن تستعيد "الداخلية" قدراتها، لأنها إذا ظلت منكسرة وفى موضع اتهام ستظل كسيحة لا قدرة لها على فرض القانون، وتوافر مناخ سقوط القانون يوفر فرصة هائلة لاستمرار (حرب غير أخلاقية) دون الخوف من الملاحقة الأمنية، بل العكس هو الحادث، فلأن الأمن كان متهما فى السابق فسيظل متهما لاحقا عبر استخدام ألاعيب الإعلام واستغلال الأخطاء وتضخيمها والتغاضى تماما عن "خطايا" "المعارضة".. ومن هنا سنرى هذه "المعارضة" تتصدى ?ى منظومة قانونية تستهدف تنظيم العمل السياسى والاحتجاجى، لأن "القانون" معناه سير الحياة وانتظام المصالح، مما يعنى تجاوز حالة "الهياج" التى تؤججها "المعارضة" ومن ثم يجب حماية حالة "اللا قانون" و"اللا أمن" أملا أن يرهق الشعب، فيصرخ فى "الرئيس": "أعطهم ما يطلبون حتى نستطيع أن نعيش". سابعا: تماسك منظومة النظام البائد وتوافر التمويل لديها، تلك التى أسستها "أمن الدولة" التى شبّكت ما بين "القيادات السياسية" و"تنظيم البلطجة" و"رجال المال والأعمال"، وقد ثبت أن "المنظومة" ما زالت تعمل ولديها قدرات تضعها تحت أمر "المعارضة" وقد حدث كل هذا، والأدلة عليه أصبحت قاطعة مانعة، وساعد على ظهور هذا "التنظيم" حالة من الغرور والثقة شعرت معها "المعارضة" أنها ستسقط "النظام" الحالى فى أيام فلم يتحفظوا فى أسرارهم التى باتت معلومة بعد أن أظهروا مساعدة "السفيرة الأمريكية" لهم، ومن ثم لم يعد محرجا أن تتشابك الأيادى مع "المنظومة المباركية"، فالحرب شاملة ومضمونة العواقب!! ثامنا: ظهور منظّمات العنف التى لها أساس شيوعى فى الأغلب، مثل "البلاك بلوك"، وبعض أجنحة "الألتراس" وليس كلها، والحقيقة أن "المعارضة" قد أخذت قرارا فوريا بمساندة هذه المنظّمات واعتبرتها "منظمات ثورية" ودعك من "التنديد" والرفض التليفزيونى للعنف فلقد كانت هذه "المنظمات"هى ا?مل ا?خير بعد أن تساقطت كل المحاور السابقة، وكان التبنى للعنف والتخريب سلاحا انتحاريا لم تحسب له "المعارضة" حسابه لأنها لم تكن تنتظر إلا نتيجة واحدة، وهى الفوز الكاسح وإسقاط "النظام الشرعى" مكللا بالعار أو السجن أو القتل! تاسعا: دعم خارجى من بعض العرب الخائفين من الثورة، ودعم أمريكى واضح بهدف كسر إرادة "الرئيس"، أو على الأقل خروجه من المعركة "ضعيفا"، ومقاومة ترسيخ قيم "ديمقراطية" بأسس من هوية الشعب الإسلامية، لتظل مصر كدول "أمريكا الجنوبية" التى عملت "أمريكا" وتعمل دائما على استقرار حالة "الديكتاتورية" والغليان الشعبى فيها حتى لا تصبح تهديدا لصيقا (بالإمبراطورية) وحتى تظل دائما قادرة على تحريك الفرقاء فيها لصالحها. عاشرا: محاولات عزل "القيادة السياسية" وبذل المجهود لضم حلفاء "الرئيس" الطبيعيين إلى صفوف "المعارضة" المستهدفة لهدم "النظام" وكسر إرادته برفض قراراته، ومطالب (عزل النائب العام) و(تغيير الحكومة) هى مطالب (كسر إرادة)، لأنها ليست لإقرار القانون واستقلال القضاء، أو المشاركة السياسية للجميع فى حكومة ائتلافية، ولكنها لإسقاط هيبة "الرئيس"، وإظهاره عاجزا أمام شعبه، وإظهار أن دفة "الحكم" بيد "المعارضة"، وأن التشاور (ملزم) "للرئيس" بصرف النظر عن مؤسسات الدولة وواجباتها الطبيعية فى تسيير دفة الحكم. وبعض "المخلصين" قد يقع فى فخ إدانة أخطاء "الرئاسة" متصورا أنه منصف ينطق بالحق، فى وقت توضع هذه المواقف "المخلصة" مع حزمة المواقف الرافضة "للرئاسة" ليظهر "الرئيس" أمام شعبه عاريا من كل تأييد. والآن… ومع اقتراب انتهاء "المعركة الشاملة" ماذا كانت النتائج؟ الفشل ثم الفشل، والهزيمة وراء الهزيمة، هو ما جنته "المعارضة"، ومع اختيارها "الصفرى الإقصائى" وضعت نفسها فى مأزق "الخاسر" الذى فقد كيانه السياسى، وشرفه الثورى، ووجوده الشعبى.. والنتائج المحققة لهذا الفشل هى: 1- تثبيت تاريخى لمكانة "الرئيس"، وتنامى الإحساس الشعبى بقوة وصلابة الرئاسة، وكل ذلك دون تورط "الرئيس" فى أخطاء منهجية أثناء "الحرب الشاملة" عليه. 2- تحول دراماتيكى متوقع فى شعبية "الإخوان"، ومعهم كل من راهن على (الشرعية) وساندها، فبعد أن نجح "الإعلام" فى تشويه صورة "الإخوان" أمام الشعب، وبعد أن انتهت المعركة إلى انهيار جيوش "المعارضة" الجرارة، ستحدث حالة استفاقة شعبية من الغيبوبة، وسيرى أن النصال الوهمية تكسرت، وأن فرسان المعارضة كانوا من ورق، ولن يكون أمام الشعب إلا أن يبالغ فى تحميل "الإخوان" المسئولية، وسيغلب شعار "حكومة إخوانية تساند الرئيس". وأما فذلكات "المعارضة" فلن تنجح بعد أن أخذت من الشعب أوقاتا كبيرة توهمه بأنها طليعته المناضلة التى ستأتى له بالمستقبل من أيدى "السلطة" الفاشلة! وإذ صبر الشعب عليهم وتحمل الآلام من جراء "حربهم الشاملة"، فإن القرار الشعبى القادم سيكون عقابيا ضد "المعارضة"، ومساندا لمن صمدوا. وهذا إنذار أخير "للإخوان" فالمسئولية الحقيقية قادمة إليكم، ووقتها سيكون كل ما مر هو مجرد لعبة فى رحلة خلوية… أما الجد فسوف ترونه بعد أن يحملكم الشعب مسئولية الحكم كاملة.