عجبا لأمر من يدعو لمقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة، ففى ظل الحكم الديكتاتورى السابق اتفقوا جميعا ومعهم بقية القوى السياسية وفى القلب منها جماعة الإخوان المسلمين على مجموعة من الضوابط الحاكمة والضرورية لنزاهة الانتخابات، وتمثلت فى ضرورة إنهاء حالة الطوارئ، وتمكين القضاء المصرى من الإشراف الكامل على العملية الانتخابية برمتها، والرقابة على الانتخابات من قِبل منظمات المجتمع المدنى المحلى والدولى، وتوفير فرص متكافئة فى وسائل الإعلام لجميع المرشحين، خاصة فى الانتخابات الرئاسية، وتمكين المصريين فى الخارج من ممارسة حقهم فى التصويت بالسفارات والقنصليات المصرية، وكفالة حق الترشح فى الانتخابات الرئاسية دون قيود تعسفية، وقصر حق الترشح للرئاسة على فترتين، وإجراء الانتخابات عن طريق الرقم القومى. كانت تلك هى مطالب القوى الوطنية كافة، وجل أمانيها لتحقيق نزاهة حقيقية للانتخابات، فهل يوجد أى من هذه المطالب لم يتحقق الآن؟ والأكثر من ذلك أن الرئيس يدعوهم ليضعوا الضمانات الأخرى التى يرونها لضمان أكبر قدر من النزاهة والشفافية للعملية الانتخابية، فنجدهم يمتنعون ويضعون الشروط غير الواقعية، بل التعجيزية فى بعض الأحيان. والبعض يتعلل بعدم استعداده للانتخابات الآن، وأن الوقت غير مناسب، وهى ذات الحجج التى يتسابقون فى التذرع بها عند كل انتخابات، وكأنهم تفاجئوا بموعدها المقرر وفق آليات محددة فى الدستور الجديد. فالمادة ??? من الدستور تقول إن "البدء فى إجراءات الانتخابات الخاصة بأول مجلس للنواب يكون خلال ستين يوما من العمل بالدستور"، فما المفاجأة إذن فى أن يخرج رئيس الجمهورية لإعلان موعد الانتخابات. إن الحقيقة المرة تقضى بأنهم قد استمرءوا الهروب من تبعات العملية السياسة، ومن مواجهة الناخبين والاحتكاك بهم، والسعى إلى حل مشاكلهم، ونيل رضاهم. وهم يدركون أنهم أبعد ما يكونون عن الإرادة الشعبية الحقيقية التى خذلتهم أكثر من مرة، فيطبقون المقولة الشهيرة "بيدى لا بيد عمرو". فمن المقبول أن يعترض البعض على بعض مواد قانون الانتخابات، أو يطالب بالمزيد من الضمانات الحقيقية الداعمة لنزاهة الانتخابات، لكن غير المقبول ولا المفهوم هو هذا الرفض التام لمبدأ الانتخابات من الأساس، وهو ما يعد فى الحقيقة انتحارا سياسيا بكل المقاييس. فهم يعتمدون فى الحقيقة على محاولة تخيل قدرتهم على استنساخ تجربة الثورة على النظام السابق مع النظام الحالى، واجترار مقولات وشعارات وهتافات ومسميات ثورة ?? يناير، متناسين أن الرئيس الحالى جاء وفق إرادة شعبية نزيهة، ولا يمكن إسقاطه إلا بذات الآلية ووفق إرادة شعبية التى هى المتحكم الحقيقى والوحيد فى المشهد السياسى، وهكذا يجب أن تكون. إنهم يدعون أن الشارع معهم، ويؤيد مطالبهم، فلم إذن الخوف من خوض الانتخابات والفوز بالأغلبية التى تؤيدهم، ويشكلون الحكومة، ويكون لهم السلطة التنفيذية وفق تلك الإرادة؟ أم أنهم يتشدقون بانحياز الشارع لهم دون سند من الواقع لذلك؟ إن الحقيقة التى يحاول البعض التهرب منها وعدم مواجهتها لأسباب مختلفة، أن تلك الدعوات هى إفلاس تام وعجز صريح عن ممارسة العمل السياسى، وبمنزلة انعدام القدرة الحقيقية على المنافسة الواقعية، وأنهم أبعد ما يكونون عن الشعب واحتياجاته، وأنهم بكل أسف يتاجرون به أكثر مما يبذلون له. إن مواقفهم المتعارضة وآراءهم المتضادة تجعل الحليم حيران، ففى الوقت الذى يتشدقون فيه بالديمقراطية والحرية واحترام إرادة المصريين، نجدهم ينقلبون على تلك المبادئ، ويحاولون جر مصر للعنف والمواجهات الدامية. وهو ما يؤكد أن المواقف والأهداف الحقيقية تدور فى فلك التطلعات الشخصية وحسب، وهى أبعد ما تكون عن أهداف الثورة ومصلحة الوطن. فمن غرائب وعجائب تلك المطالب، أنهم يطلقون بين الحين والآخر دعوات من أجل إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، بحجة تآكل شرعية الرئيس، التى لا نعلم مقاييس لها سوى المقاييس الانقلابية على الحرية والديمقراطية، وتنكب سبيل الإرادة الشعبية، ونجدهم الآن يعلنون مقاطعتهم لانتخابات دستورية لأسباب واهية وغير منطقية. إن المواقف المخزية المتتالية لتلك القوى تؤكد للجميع أنها تستهدف خراب الوطن والزج به فى غيابات التيه؛ انتصارا لأوهام شخصية وطموحات زائفة. وهم فى سبيل ذلك يطالبون بالشىء وضده، فهم يطالبون بعودة الجيش للسلطة، وفى الوقت نفسه يطالبون بمحاسبة الجيش عن الفترة الانتقالية، ويقولون: إن ظروف البلد لا تحتمل انتخابات نيابية، وفى الوقت نفسه تطالب بانتخابات رئاسية مبكرة، ويطالبون بعزل النائب العام؛ لأن الرئيس المنتخب هو من عيّنه، ويطالبون بعودة النائب السابق رغم أن مبارك المخلوع هو من عينه، ويطالبون بحق الشهداء بما فيهم شهداء ألتراس الأهلى، ويستنكرون أحكام الإعدام الصادرة ضد المدانين بحكم قضائى، ويطلبون بفصل الدين عن الدولة ومنع السياسة فى المساجد، ويمارسون السياسة فى الكنائس وهو مسجل وموثق على مواقع "الإنترنت". ويحرضون على العنف ويعطونه الغطاء السياسى، ويقولون: إن العنف سيستمر حتى الاستجابة لطلباتنا، ويستنكرون فى ذات الوقت أحداث العنف التى ارتكبها أنصارهم، واعترفوا بارتكابها، والأكثر من ذلك يدينون أى إجراءات قانونية تتخذ ضدهم، ويعدونها حلقة فى سلسلة استهداف الثوار. إنهم يدركون أن الشعب يلفظهم، وأنه لا وجود مؤثر لهم فى الشارع، وأن وزنهم النسبى فى الشارع أقل بكثير من وزنهم فى الفضائيات والمؤتمرات الصحفية، وأن دخولهم أى استحقاق انتخابى الآن سيكشف حجمهم الحقيقى، وسيعريهم أمام الدنيا كلها، لذا فهم يسعون إلى إعاقة أى عملية انتخابية تحت دعاوى زائفة وغير حقيقية؛ خوفا على مكانتهم الفضائية ووجودهم المؤثر والفعال فى الندوات والمؤتمرات. إن من يحب مصر بحق ويسعى إلى إعادة إعمارها مما لحق بها، لا بد أن يحذف من قاموسه كلمات، مثل: عصيان، إضراب، إحراق، إسقاط، ويستبدلها بكلمات إيجابية بناءة مثل: إعمار، بناء، تشييد، تكافل، تكامل، وحدة، حب، إخاء، منافسة شريفة، معارضة بناءة. لنتسابق فى حب مصر، ونتنافس فى خدمتها، ونقدم لها كل سبل التقدم والرقى، ونتعالى على خلافاتنا، ونعلى مصلحة مصر وشعبها فوق الجميع. حفظ الله مصر وشعبها ورئيسها من كل مكروه وسوء.