كان الشيخ "محمد عبده" دائما موضع نقد من "الدعوة السلفية"، بل كان احتفاء "الإخوان" "بالشيخ" سببا من أسباب الخلاف المنهجى بين "السلفيين" و"الإخوان"… ورغم ذلك فإن المسار السياسى والمجتمعى "للسلفيين" يكاد يتطابق مع مسار "الشيخ"، ويبدو أن النهايتين ستكونان واحدة… كيف؟ أولا: فقد كان "الشيخ" عزوفا عن العمل السياسى ويرى أن "التربية" والحفاظ على "اللغة العريبة" عنصران كفيلان بنهضة الأمة، إلا أن "أستاذه جمال الدين الأفغانى" كان يدفعه دفعا للانخراط فى المجتمع بكل دوائره، ومحاولة التأثير فيه وإصلاحه، سواء كان هذا فى التعليم أو الصحة أو الفكر السياسى أو السياسة، وكانت ثقة "الشيخ" فى "أستاذه" هى أهم ما دفعه "للكتابة" فى كل هذه الآفاق، لكن الوازع النفسى ظل يشده إلى قناعاته الأولى… تماما "كالدعوة السلفية" التى رأت أن تصحيح العقيدة مسار صحيح ووحيد لنهضة الأمة، وأن الانخراط فى العمل السياسى والوقوف ضد الاستبداد قد يضر بالدعوة، فاختاروا منهجهم عن قناعة ويقين، ولم يستجيبوا لضغوط شبابهم الذين يرون أترابهم من شباب "الإخوان" يتعلم العقيدة فى المسجد ثم ينطلق لمواجهة الاستبداد فى الجامعة والمصنع، وكما كانت علاقة "الشيخ" طيبة بالأسرة الحاكمة كانت علاقة "الدعوة السلفية" طيبة مع النظام الحاكم قبل الثورة، وكما اتسعت حركة "الشيخ" وذاع صيته دون تربص من الحكام، اتسعت "الدعوة السلفية" فى مأمن من البطش المنهجى للسلطة، وكما عانى "الشيخ" أحيانا من سوء فهم الحكام له عانى "السلفيون"، لكن كانت القاعدة فى الحالين هى "التفهم" من جانب السلطة وعدم التربص أو الخوف من العواقب. وإذا كان "الشيخ" و"السلفيون" قد اتهموا بمداهنة الحكام، فالواقع أنهم كانوا بريئين من "المداهنة" التى تعنى "النفاق"، ولكن كانت هناك (ضرورات) من وجهة نظرهم استدعت (تنازلات)، وقد يكون خوف "الدعوة السلفية" من انتشار منهج "الإخوان" الإصلاحى قد دعاهم إلى تنازلات أو تفاهمات أعلى نسبيا مما كان عليه "الشيخ" مع حكامه، إلا أن هذه التفاهمات لا تدخل فى ميدان الخيانة كما يحلو لبعض الشباب أن يصف هذا المنهج، رغم أن هذا "المنهج" -لا شك- قد تسبب فى أذى لحق "بالإخوان" جراء الحرص السلفى الزائد على التوسع فى السيطرة على المساجد وتحجيم الوجود الإخوانى فيها، وهو ما توافق مع رغبة النظام حينها، ولكن يظل الأمر فى إطار "فكرة" مسيطرة على العقل السلفى تخشى من صعود "الإخوان" وليس "خيانة" أو "تواطؤا" ضدهم، لكن فى حركة الحياة وموجات السياسة الجارفة يصعب على العامة الفصل تماما بين ما هو "فكرة" وما هو "خيانة أو تواطؤ" وهذه طبيعة الحياة. ثانيا: الانخراط فى العمل السياسى بدأ عند "الشيخ" بالإعداد "للثورة العرابية" وبدأ عند "السلفيين" بعد نجاح ثورة "25 يناير"، وكما كان "الشيخ" فى غاية التردد من التعاون مع "العرابيين" كان "السلفيون" كارهين تماما للتعاون مع "الثورة المصرية"، وكما دُفِع "الشيخ" دفعا من أصدقائه ومن هم محل ثقته مثل "محمود سامى البارودى"، فإن "السلفيين" دفعوا دفعا بسبب تسارع الأحداث وضغط الشباب، وضغوط المشايخ المنتمين للمنهج السلفى دون انتمائهم "للدعوة السلفية" بالإسكندرية، من أمثال "د.محمد عبد المقصود" الذى اعتصم فى "التحرير" على "كرسى متحرك" فكان ملهما للشباب السلفى وملهما لحماستهم الوطنية. وانخرط "الشيخ" تماما فى السياسة، وخاض غمار "الثورة العرابية" التى أوشكت أن تعلى من شأن الجيش المصرى الممثل للكرامة والرمزية فى ذلك الوقت فى مواجهة الأخلاط العسكرية المتعددة والفاسدة المسيطرة على الحياة المصرية، لكن الثورة فشلت ودخلت القيادات كلها "السجن"، وتحت الضغوط غير الإنسانية تبادلت القيادات الاتهامات، وكتب "الشيخ" كتابات مريرة ينحى فيها باللائمة على رفاق المعركة وكذلك هم فعلوا ما فعل… تماما كما يفعل "السلفيون" الآن، فقد هالتهم المحنة التى يتعرض لها "الإخوان" ولم يحسبوها باعتبارها مرحلة صعبة تصدى لها من أهّلتهم الأحداث والتاريخ لقيادة البلد فى فترة عصيبة، وخافوا من أن يصيبهم الهجوم على "الإخوان" بهجوم مثله عليهم، ويتحسبون من فشل "الإخوان"! أن ينسب للإسلاميين جميعا فسارعوا رويدا رويدا… بالتخلص من مساندة "الإخوان" ثم بالتنسيق مع خصوم "الإخوان"، ثم بمناصبة "الإخوان" عداء سياسيا غير مبرر، وتؤكد الأسباب التى ساقوها فى هجومهم على "الإخوان" أنها ليست هى الأسباب الحقيقية لهذه الخصومة الشديدة، فلا (أخونة) ولا أخطاء إستراتيجية حقيقية، كما أنه لا حاجة لحكومة جديدة قبل أسابيع من الانتخابات، ولا حاجة أبدا "لنائب عام جديد" كما أن موضوع "د.خالد علم الدين" قد أخذ أكثر من حقه، فكل هذه "مبررات" تساق للخصومة، وليست أسبابا حقيقية للاختلاف. والحاصل أن "الشيخ" خرج من التجربة (عازفا) تماما عن السياسة (عازما) تماما على الرجوع إلى "المسجد والمدرسة"، ولم تفلح ضغوط "أستاذه الأفغانى"، لدرجة أن "الأفغانى" قال له :"إنما أنت مثبط" أى أنه نعته بتثبيط همم الإصلاحيين رغم أن "الشيخ" يدعو للإصلاح!، ولكن اعتراض "أستاذه" على منهجه قد وصل به إلى وضعه بجوار (المعاندين) للإصلاح وليس (المساندين) له… وانتهى الحال "بالشيخ" إلى الكفر بالسياسة واعتزالها والدعوة إلى عدم مخالطتها، وهذا ما نتوقع أن تئول إليه "الدعوة السلفية" فى طبعتها السكندرية، حيث نتوقع أن يرفض عدد من القيادات التاريخية "للدعوة" النهج المعادى "للإخوان" و"الرئاسة"، والتحالف مع "العلمانيين" كما فعل فضيلة الشيخ "سعيد عبد العظيم" وغيره، وأمام إصرار قيادات أخرى على هذا النهج فسيحدث الخلاف العميق الذى سيبرز فكرة "تجنب السياسة" المسببة لفرقة "الصف السلفى" وقياداته، بعد أن سببت الفرقة فى عموم الصف الإسلامى بالوطن. سيكون المآل السلفى إلى: (لعن الله ساسَ ويسوس وسياسة)، كما كان المآل "للشيخ" الذى ترك كل شىء ولجأ إلى منهج التربية والعودة إلى جماعة "العروة الوثقى" التربوية بعد نفيه وتخلصه من المعارك السياسية. لقد تصور الاثنان "الشيخ" و"السلفيون" أن السياسة (فرصة)، وليست عملا عميقا، فلم يعدّوا لها عدتها فكان ما كان. وأخيرا: أرجو أن يضع القارئ الكريم هذه المقالة فى موضعها كاجتهاد لفهم الواقع، وليس هجوما على إخواننا "السلفيين"… والذى تشهد مقالاتنا السابقة بالدفاع عنهم، ومناصرتهم عندما لحق بهم الأذى الشديد من "الهجوم العلمانى الظالم، والذى يلتقط الفرصة اليوم"، ويشعر الجميع أنه فى صف هؤلاء "السلفيين" العقلاء الذين فارقوا "الإخوان" وتركوهم فى منتصف الطريق!!