لأننا كنا من الشعوب المقهورة مسلوبة الحرية، فقد استقبلنا بترحيب تلك الأفكار الغربية الداعية إلى "حرب اللاعنف"، التى أفادت فى مراحل سابقة، والمؤكد أن الكثيرين استقبلوا هذه "الأيديولوجيا" بحسن نية، فى الوقت الذى يتأكد للباحث المتأمل أنها محاولة من الدول الاستعمارية الكبرى للهيمنة على "الثورات الشعبية"، ومحاولة تحويل مسارها؛ حيث تصبح "تحت التحكم" وحتى لا تُتوّج بحالة "استقلال حقيقى" من شأنه أن يجعل مهمة التعامل مع هذه الثورات مستحيلة. والثابت أن تحويل الثورات إلى "السلوك الفوضوى" كمرحلة ثانية من الثورات، كان دائما أفضل الحلول للتدخل وفرض القرار الخارجى على "الحكم الثورى" الوليد الذى -عادة- لا يمتلك زمام الأمور ويدخل قصر الحكم بين بحار متلاطمة من المشكلات المزمنة. وتعيش بلادنا الآن هذه المرحلة الأخيرة من محاولات "توجيه الثورة"؛ إذ نرى كيف تنتشر جماعات ال(كتلة السوداء) و(الأناركية)، التى بدأت بوجه (فانديتا) وانتهت الآن إلى وعيد بالحرق والتدمير فى مواجهة "إجرام الإخوان"! حيث تنتشر صفحاتهم على "فيس بوك"، منها ما يؤكد نهج التدمير، ومنها ما يسخر من (نهج السلمية) ويخاطب دعاتها وأنصارها بكل صلف وغرور وسخرية، ثم ينشر اعترافاته بالحرق والتدمير ويُعلّم الجميع صناعة "المولوتوف"، ومنهم من يتباهى بجديته لأنهم وعدوا بحرق مقرات "الإخوان" ونفذوا وعودهم. ويحاولون جميعا أن يصنعوا (منطقا ثوريا) لحركتهم، وهو "ظلم النظام الإخوانى الحاكم"، وهذا (المنطق) يستند على أن "د. مرسى" لم يأت بحق الشهداء، ولا بالعدالة الاجتماعية، وهم فى ذلك لا يسمعون ?ى منطق يتحدث عن حقيقة الإنجازات الهائلة، ابتداء من إبعاد العسكر عن الحكم، وانتهاء بإعادة المحاكمات، مرورًا بالدستور، ونقل السلطة التشريعية لمجلس منتخب، وتقنين حقوق الشهداء، كما أنهم لا يستوعبون "الفذلكة" الاقتصادية حول تدشين سياسات عدالة اجتماعية، ولا يعترفون بعامل الوقت فى ا?صلاح، ولا بانتظار كلمة القضاء، إنهم ببساطة يريدون حاكما فردا يأخذ قرارات فورية بالتساوى فى الأجور مثلا، وإعدام حفنة مختارة من سدنة حكم "مبارك"، وإعدام وسجن مجموعة قيادات شُرَطية -يحددون أسماءها- ثأرا أو "قصاصا" لشهداء الثورة. ولا يغيب عن الباحث ظهور هذه المجموعات بأشكال متعددة فى دول ثارت شعوبها، والحقيقة أن هذه المجموعات الفوضوية نجحت فى تحويل مسار الثورات السابقة ووضعتها رهينة بيد القوى الكبرى فى أغلبية الدول الضعيفة التى ثارت شعوبها. أما خطيئة "الإخوان" الكبرى فهى "سرقة الثورة"، والواقع يؤكد أن ادعاء هذه المجموعات صحيح! لأن "الإخوان" سرقوها فعلا ممن أراد أن يحيد بها عن مسارها الصحيح، وأصروا أن تكون ثمار الثورة للشعب الذى قام بها، ومن ثم فإن الثأر مع "الإخوان" سيكون شديدا وعارما. يذكرنا هذا بالثأر مع مؤسس الدعوة "الإمام البنا"، الذى "اختطف" -أيضا- "القضية الفلسطينية" من الغرف المظلمة للأنظمة الكبرى وألقاها بيد الشعوب العربية والإسلامية، ومن يومها كلما أرادوا "دفن" القضية أو "تبريدها" ظهرت لهم الشعوب وأسقطت الاتفاقيات الدولية المتآمرة؛ التى كان آخرها (أوسلو، والواى ريفر، وشرم الشيخ). والآن.. فإن الوضع شديد الوطأة على هذه الدول الكبرى؛ وذلك ?ن الثورة المصرية تسير فى اتجاهها الصحيح، وأخذت خطوات فى تأسيس (الدولة)، وأسست (الديمقراطية)، وأعلنت (استقلال القرار)، ومن ثم ستفشل السياسة الغربية التقليدية ذات المائة عام فى تطويع "مصر الجديدة". وهذا الفشل سيعنى بروز نقطة ارتكاز جديدة فى المنطقة العربية تتجمع حولها الشعوب التى ستجبر حكوماتها وأنظمتها على هذا الالتفاف.. ومن هنا كان لا بد من إحياء "الفوضى" بكل معانيها وتمويلها، ومنحها الغطاء الإعلامى الذى كانت تفتقده. وكما نرى.. وسنرى.. فإن بقايا النظام السابق قد وجدوا بغيتهم فى الشباب الفوضوى، والقيادات السياسية الفاشلة.. وجدوا طوق النجاة فيهم. ورجال الأعمال الفاسدون المهددون بسيف القانون وجدوا خلاصهم فيهم. وسيتجمع هؤلاء مع اللاعبين بالنار، وستحرقهم النار وسيندمون، وسيعلمون أن تدمير الثورة والمتاجرة بدم الشهداء لن يؤتى ثماره. وأما آثار لعبتهم على الفقراء والمحتاجين.. فسيعلمون أن لها ثمنا فادحا سيدفعونه عند افتضاح أمرهم، وربما كانوا هدفا شعبيا للقصاص العادل بما يسببونه من تأخر بناء مؤسسات الدولة واقتصادها. لست مع المحتارين الذين يرون قيادات مثل "د. أبو الفتوح" و"د. عمرو خالد" وغيرهما من المخلصين قد دخلوا هذه المعمعة، وسبب عدم الاندهاش هو معرفتنا بسلامة نواياهم، وتسرعهم الفطرى، وعدم تمتعهم بالقدرة على تمحيص الأمور، و?نهم لا يمتلكون (منظومة) تدق لهم أجراس الخطر وتنبههم لما هم مقدمون عليه من مزالق تهيل عليهم -بغير رغبة منهم- أوصافا يخجلون منها. أما "الإخوان" فهم على الحق المبين، والطريق المستقيم، يخطئون فى السياسة ككل البشر، لكنهم أبدا لا تنحرف بوصلتهم ولا يضلون الطريق، والسائر معهم رابح مهما كانت التضحيات أو ركام التشويه.. والمحب لهم لن يندم، والمؤيد لهم لن يُخذل. وأما "الرئيس مرسى" فقد اختار الطريق الصعب الذى -عادة- تفر منه القيادات فى هذه المراحل.. فلقد أصر على مسار "بناء الدولة" ولم يجنح للمسكنات الشعبية والخدع الجماهيرية التى كانت سترفعه على الرءوس حينا، ثم يجد الشعب نفسه فى نكسة جديدة كالتى صنعها الناصريون بالأمس، ويصرون مع حلفائهم "الأناركيين".. والبلطجية على إعادة مسلسل الهزائم المهينة.. ولن تعود بإذن الله. ----------------- محمد كمال [email protected]