شهدت السياسة الخارجية المصرية خلال العامين الماضيين تحولا جذريا عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير؛ حيث بدأ يتشكل اتجاه جديد يخدم أهداف الثورة ويحقق مصالح البلاد العليا على جميع المستويات وفى علاقاتها مع محيطها العربى والإقليمى، وكذلك على المستوى الدولى، وبدت ملامح هذا التطور أكثر وضوحا عقب تولى الرئيس محمد مرسى، أول رئيس مدنى منتخب، مهامه فى يوليو الماضى. ووضعت مصر نفسها على الطريق الصحيح لاسترداد مكانتها الطبيعية التى تستحقها بين دول العالم؛ حيث جاء تقاعس النظام البائد فى حق السياسة الخارجية على عاتق الدبلوماسية الجديدة التى تحتاج إلى العمل بجد من أجل الارتقاء بمصر والنهوض بواقعها الأليم من كل النواحى، والعمل على إعادة النظر فى سياساتها الخارجية، بما فيها الاتفاقيات والمعاهدات السياسية منها والاقتصادية؛ من أجل إحداث تغيير جذرى وشامل على مستوى الدولة واستعادة مكانة مصر وثقلها على الساحة الدولية والإقليمية؛ لما لها من دور تاريخى ومفصلى بما يتعلق بالقضايا العالمية. والمتابع للشأن المصرى بعد ثورة يناير وكيفية تعاطيه مع الوضع العالمى المتشابك، يعرف جيدا أن القيادة المصرية المنتخبة اتخذت مسارا جديدا يعزز استقلال قرارها، عن طريق إيجاد بدائل للعلاقات مع القوى الكبرى التى تقوم على تبادل المصالح بدلاً من الارتماء فى أحضانها كما كان يفعل النظام البائد بقيادة المخلوع، ونجحت السياسة المصرية فى تقديم الدعم للأشقاء العرب، خاصة القضية الفلسطينية ونصرة الشعوب المستضعفة؛ وهو ما تجلى فى الملفات التالية. القضية الفلسطينية وملف المصالحة لعل من أبرز مظاهر التغيير الحادث فى موازين القوى فى المنطقة عقب ثورة يناير، هو موقف مصر تجاه القضية الفلسطينية وملف المصالحة؛ حيث ظهر جليا أن الإرادة المصرية اتجهت عقب الثورة إلى التحرك بوتيرة أسرع نحو إنجاز ملف المصالحة بين الأشقاء الفلسطينيين. وأثمرت الجهود المصرية عن عقد عدة لقاءات بين ممثلى الفصائل الفلسطينية، وفى مقدمتهم حركة المقاومة الإسلامية "حماس" مع ممثلى السلطة الفلسطينية وحركة فتح، وتوجت هذه الجهود بلقاء جمع رئيس المكتب السياسى لحركة حماس خالد مشعل مع الرئيس الفلسطينى محمود عباس، وذلك برعاية الرئيس المصرى محمد مرسى، وقد أسفر اللقاء عن العمل على وضع خطة للمرحلة الانتقالية، وذلك بتكوين حكومة تكون مهمتها الأساسية تهيئة الأجواء للانتخابات التشريعية والرئاسية. قطاع غزة وتحول دراماتيكى وفى قطاع غزة، ظهر التوجه الجديد للسياسة المصرية بوقوف الإدارة المصرية بوضوح بجانب الفلسطينيين المحاصرين فى قطاع غزة أمام العدوان الإسرائيلى، وقامت مصر بتخفيف الحصار المضروب على القطاع وإزالة أى قيود على العمل الإغاثى الرسمى وغير الرسمى؛ حيث فتحت المعابر على مدار الساعة أمام البضائع والأفراد ووضعت المستشفيات المصرية برفح والعريش فى حالة تأهب قصوى، وقدمت كل التسهيلات للمعونات والمساعدات الغذائية والطبية المقدمة لسكان غزة. ومع الهجوم الإسرائيلى الأخير على غزة، نفذ الرئيس مرسى تهديده الذى أطلقه قبل ساعات من الهجوم الإسرائيلى بسحب السفير المصرى من تل أبيب حالة تنفيذ الأخيرة تهديداتها بشن عدوان على القطاع، كما جاءت زيارة رئيس الوزراء المصرى د. هشام قنديل، غير المسبوقة إلى قطاع غزة فى خضم العدوان الإسرائيلى على رأس وفد مصرى رفيع المستوى، ومن بعدها زيارة الوفد الشعبى المصرى، لتأكيد تضامن مصر، حكومة وشعبا، مع أشقائهم الفلسطينيين. كما تدخلت مصر بقوة لرعاية اتفاق التهدئة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولم يحدث تلقى إملاءات من واشنطن أو تل أبيب لفرضها على الفلسطينيين، وهو ما ظهر بجلاء من ثناء خالد مشعل على جهود القاهرة ودور الرئيس مرسى فى مساندة الموقف الفلسطينى وإدراك هذا الاتفاق، مؤكدا أنه لم يمارس أى ضغوط على المفاوضين الفلسطينيين، ولم يسع لفرض أى حلول أو مقترحات عليهم. ظهير للثورة السورية بدا موقف مصر الداعم للثورة السورية جليا منذ بداية الأزمة، وبدا أكثر وضوحا مع تولى الرئيس مرسى مقاليد الحكم؛ حيث أعلن الرئيس صراحة وأكثر من مرة أن حل الأزمة السورية يتطلب تنحى الرئيس السورى بشار الأسد عن الحكم. كما قام الرئيس مرسى بعمل مبادرة لتكوين لجنة رباعية من مصر وتركيا والسعودية وإيران لحل الأزمة السورية؛ نظرا لارتباط الملف بتلك الدول. وشاركت مصر فى مؤتمر "أصدقاء سوريا" الذى عقد أكثر من مرة، علاوة على استقبال مصر لائتلاف قوى المعارضة السورية والموافقة على جعل مصر المقر الرئيسى له. أما على النطاق الشعبى فقد استقبلت مصر اللاجئين السوريين استقبالا طيبا، وعملت الجمعيات الخيرية على توفير مسكن لهم قدر المستطاع، بالإضافة إلى تسهيل عمل الكثير منهم فى مصر. تهدئة وتعاون مع دول الخليج عقب ثورات الربيع العربى، وتخوف دول الخليج العربى من انتقال رياح هذا التغيير إليها، عملت مصر على المستويين الرسمى والشعبى على تلطيف الأجواء مع الأشقاء العرب. فعقب أزمة المحامى المصرى المسجون فى السعودية، ومع محاولة اقتحام بعض المصريين لأسوار السفارة السعودية فى القاهرة، وسفر السفير السعودى من مصر، قام وفد برلمانى وشعبى مصرى بالسفر للمملكة العربية السعودية؛ لتأكيد العلاقات المتميزة بين البلدين؛ مما أدى إلى حلحلة الموقف. ومؤخرا فى أزمة المصريين المحتجزين فى دولة الإمارات، زار وفد مصرى رفيع المستوى الإمارات لتهدئة الأجواء ونزع فتيل الأزمة، كما قامت لجنة قنصلية مشتركة بالاجتماع فى الإمارات لتناول جميع مشكلات المصريين والإماراتيين فى البلدين. أما العلاقات مع قطر فقد توطدت بشكل أكبر بعد الثورة؛ حيث زارت وفود قطرية مصر عدة مرات، ونتج عن آخرها تسليم قطر لمصر مبلغ 5 مليارات دولار كوديعة فى البنك المركزى لدعم الاقتصاد المصرى، كما قررت القيادة القطرية ضخ استثمارات فى مصر بما يعادل 18 مليار دولار خلال الفترة المقبلة للاستثمار ضمن مشروع تنمية إقليم قناة السويس. مناصرة القضايا الإسلامية حرصت مصر على تقوية الروابط مع الدول الإسلامية؛ حيث تسلمت مصر فى أغسطس الماضى رئاسة منظمة التعاون الإسلامى، كما تستضيف القمة الإسلامية الاعتيادية أوائل الشهر المقبل. واهتمت مصر بأحوال المسلمين فى تلك الدول وفى الدول الأخرى، وكان من أبرز أشكال ذلك الاهتمام، تحرك الخارجية المصرية لتخفيف الاضطهاد الواقع على مسلمى بورما (ميانمار)؛ وذلك عن طريق مطالبة الحكومة هناك بالسماح بزيارة وفد مصرى وآخر تابع لمنظمة التعاون الإسلامى لمساعدة المسلمين هناك من خلال السماح بدخول مساعدات إنسانية. كما استدعت وزارة الخارجية سفير دولة ميانمار لدى القاهرة؛ لإبلاغه رسالة عاجلة بانزعاج مصر الشديد، جراء تجدد أعمال العنف ضد مسلمى الروهينجا، وكذلك مطالبة مصر لمسئولى ميانمار باتخاذ تدابير فورية وحاسمة لوضع حد لأعمال العنف التى تستهدف أرواح وممتلكات المسلمين هناك، وكذلك تقديم مرتكبى تلك الأعمال الإجرامية للعدالة. فى الإطار ذاته، حضر الرئيس محمد مرسى قمة دول عدم الانحياز فى طهران وألقى خطابا هناك، وسلم إيران الرئاسة الدورية للحركة، وذلك فى أول زيارة لرئيس مصرى إلى إيران منذ الثورة الإسلامية عام 1979 التى أدت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. كما ألقى المستشار محمود مكى، نائب رئيس الجمهورية، كلمة أمام الجلسة المشتركة للبرلمان الباكستانى، وذلك خلال زيارته لإسلام آباد للمشاركة فى مؤتمر قمة منظمة مجموعه الثمانى دول الإسلامية النامية (دى -8). التقارب مع تركيا تعد العلاقات المصرية التركية فى أوج ازدهارها خلال هذه الفترة؛ حيث حدثت زيارات متبادلة بين البلدين على أعلى مستوى، وذلك دعما للروابط الاجتماعية والاقتصادية بين البلدين الإسلاميين. وكان من أبرز الزيارات ما قام به الرئيس مرسى نهاية سبتمبر الماضى؛ حيث ألقى كلمة فى احتفالية حزب العدالة والتنمية التركى بدعوة من رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، الذى رد الزيارة إلى مصر على رأس وفد اقتصاد يضم 350 رجل أعمال تركيا، وألقى كلمة فى جامعة القاهرة، وحضر منتدى الأعمال المصرى التركى. كما وقفت مصر وتركيا معا فى العديد من القضايا المهمة مثل الأزمة السورية والعدوان الإسرائيلى على غزة، وذلك فى بداية لتشكيل قوة إقليمية جديدة. أمريكا ومصالح متبادلة اتسمت العلاقات المصرية الأمريكية عقب ثورة يناير بالتعامل بنوع من الندية المبنية على المصالح المتبادلة. وقد ظهر وزن مصر الإقليمى بوضوح، حينما لجأت الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى الرئيس محمد مرسى؛ لكى يتدخل للتوصل إلى تهدئة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل فى العدوان الإسرائيلى الأخير على قطاع غزة. كما زار الرئيس محمد مرسى الولاياتالمتحدة للمشاركة فى أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، فى دورتها السابعة والستين، وألقى خطابا هناك حدد فيه معالم علاقة مصر الجديدة بالعالم. الصين قوة اقتصادية فى أول زيارة له خارج العالم العربى، قام الرئيس مرسى بزيارة لمدة ثلاثة أيام للصين أسفرت عن توقيع 8 اتفاقيات ثنائية تشمل مجالات التعاون المشترك فى الاقتصاد والتجارة والزراعة والسياحة والاتصالات والبيئة، ودفع الاستثمارات بين البلدين. وتأتى زيارة الرئيس للصين كعامل من توازن العلاقات مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، ورسالة بأن مصر لم تعد رهينة أى قوة عالمية؛ وبناء عليه سارعت الولاياتالمتحدة بإرسال وفد من رجال الأعمال الأمريكيين أصحاب الشركات متعددة الجنسيات ليدرسوا ضخ استثماراتهم فى مصر. أوروبا وعلاقات جديدة قام الرئيس مرسى بزيارة بعض الدول الأوروبية منها بلجيكا وإيطاليا؛ لبحث مسألة دفع العلاقات السياسية والاقتصادية مع مصر، بالإضافة إلى حثهم على ضخ استثماراتهم فيها. وقد كان للدول الأوروبية ردود أفعال متباينة فى مواقف مختلفة؛ حيث أثنت على التحرك المصرى فى موضوع العدوان الإسرائيلى على غزة، وهو ما ظهر من تلقى وزير الخارجية المصرى محمد كامل عمرو اتصالات هاتفية من وزراء خارجية فرنسا وإيطاليا بريطانيا واليونان؛ للإشادة بدور مصر فى اتفاق وقف إطلاق النار، وتأكيد التقدير للدور الذى قام به الرئيس محمد مرسى فى هذا الشأن.