لقد كثرت مِنَنُ الله علينا ?وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا? ومنها: مِنَّتُه على الأمة باحتضانها المشروع الإسلامى، وتجاوبُها مع دعاة الصحوة الإسلامية، بعد ثورة عظيمة دفعت الأمة لإعادة رسم خريطة اهتماماتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية وفق منظومة القيم التى تميزها وتؤكد هويتها الإسلامية الأصيلة، مما جعل الحاجة ماسة إلى أن يراجع الدعاة بين الحين والآخر خطابَهم الدعوى شكلا ومضمونا حتى يؤتى أُكُلَه بإذن ربه. وفيما يلى عشر من السمات التى أرى أنها يجب أن تتوفر فى الخطاب الدعوى لكى يحقق الأهداف المرجوة: 1- ضبط المرجعية للخطاب الدعوى، بأن يكون قائما على العلم الشرعى، ومنطلقا من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومستخدما لتعبيراتِهما ما أمكن، ومتخلقًا بآدابهما على الدوام، مستمسكًا بالتوجيه الحكيم ?ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ?. 2- وضوحُ الخطاب وبساطتُه وعدمُ تعقيده أو التقعُّرِ فى عباراته وألفاظه، كما هو شأنُ القرآن العظيم ?وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ? وكما كان شأنه صلى الله عليه وسلم فى خطابه الذى وصفته عائشة رضى اللّه عنها فيما رواه أبو داود قَالَتْ: «كَانَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامًا فَصْلًا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ». 3- شموليةُ الخطاب وتنوُّعُه ليصل إلى جميع الناس، أطفالا وكبارًا، ورجالاً ونساءً، مثقفين وعوامًّا، وطلبة علم وعلماء، شاملا فى القضايا والموضوعات التى يطرحها، وفى المدعوين والمخاطبين الذين يتوجه إليهم مهما كانت خلفياتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية. 4- واقعيةُ الخطاب وملامستُه لحاجات الناس ومراعاتُه للزمان والمكان، وفى هذا الصدد يقول ابن القيم رحمه الله فى إعلام الموقعين: «لَا يَتَمَكَّنُ الْمُفْتِى وَلَا الْحَاكِمُ (يعنى القاضى) مِنْ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ بِالْحَقِّ إلَّا بِنَوْعَيْنِ مِنْ الْفَهْمِ: أَحَدُهُمَا: فَهْمُ الْوَاقِعِ وَالْفِقْهِ فِيهِ... وَالنَّوْعُ الثَّانِى: فَهْمُ الْوَاجِبِ فِى الْوَاقِعِ، وَهُوَ فَهْمُ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِى حَكَمَ بِهِ فِى كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رسولِهِ فِى هَذَا الْوَاقِعِ، ثُمَّ يُطَبِّقُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ... فَالْعَالِمُ مَنْ يَتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ... وَمَنْ سَلَكَ غَيْرَ هَذَا أَضَاعَ عَلَى النَّاسِ حُقُوقَهُمْ، وَنَسَبَهُ إلَى الشَّرِيعَةِ الَّتِى بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ». 5- إيجابيةُ الخطاب وبناؤه على حُسنِ الظن بالناس، وتغليبُ الأمل والتفاؤل والرجاء على التيئيس وسوء الظن، وتجنُّبُ الحكمِ على الناس بالضلال والكفر وتضخيمِ أخطائهم، والحرصُ والإصرارُ على متابعة الدعوة والصبر على المدعوين واستمرار المحاولة فى تصحيح مفاهيمهم وإن لم يستجيبوا، وفى صحيح مسلم عن أَبِى مُوسَى، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِى بَعْضِ أَمْرِهِ، قَالَ: «بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا». 6– تقديرُ ظروف المدعوين وأحوالهم والتدرج معهم فى طريق الالتزام بأحكام الدين، وقد روى البخارى فى صحيحه عن عائشة قالت: «إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَىْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ؛ لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لَا تَزْنُوا؛ لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا». إن الفساد لم يقع فى حياة الناس فجأة وإنما تراكمت ممارساته على مر السنين حتى استحكم، ولذلك فهو يحتاج إلى حكمة فى مقارعته، ولله دَرُّ عمر بن عبد العزيز الذى قال: «إِنِّى أعالج أمرا لَا يعين عَلَيْهِ إِلَّا الله، قد فنى عَلَيْهِ الْكَبِير، وَكبر عَلَيْهِ الصَّغِير، وفصح عَلَيْهِ الأعجمى، وَهَاجَر عَلَيْهِ الْأَعرَابِى، حَتَّى حسبوه دينا لَا يرَوْنَ الْحق غَيره». ومن مواقفه الرائعة فى ذلك: ما رواه أبو نعيم فى حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: أن ابنه عَبْدَ الْمَلِكِ قال له: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُنْفِذَ لِرَأْيِكَ فِى هَذَا الْأَمْرِ، فَوَاللهِ مَا كُنْتُ أُبَالِى أَنْ تَغْلِى بِى وَبِكَ الْقُدُورُ فِى إِنْفَاذِ هَذَا الْأَمْرِ. فَقَالَ عُمَرُ: «إِنِّى أَرُوضُ النَّاسَ رِيَاضَةَ الصَّعْبِ، فَإِنْ أَبْقَانِى اللهُ مَضَيْتُ لِرَأْيِى، وَإِنْ عُجِّلَتْ عَلَى مَنِيَّةٌ فَقَدْ عَلِمَ اللهُ نِيَّتِى، إِنِّى أَخَافُ إِنْ بَادَهْتُ النَّاسَ بِالَّتِى تَقُولُ أَنْ يُلْجِئُونِى إِلَى السَّيْفِ، وَلَا خَيْرَ فِى خَيْرٍ لَا يَجِىءُ إِلَّا بِالسَّيْفِ». 7- مراعاة الأولويات فى الخطاب، فهذا أصل أصيل فى فقه الدعوة إلى الله، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصى الدعاة بهذا الأسلوب فى الدعوة، فروى البخارى أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: «إِنَّكَ سَتَأْتِى قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ». وما أروع ما قاله الإمام الشاطبى رحمه الله تعالى فى الموافقات فى هذا المعنى: «وَقَدْ أَخْبَرَ مَالِكٌ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّ عِنْدَهُ أَحَادِيثَ وَعِلْمًا مَا تَكَلَّمَ فِيهَا وَلَا حَدَّثَ بِهَا، وَكَانَ يَكْرَهُ الْكَلَامَ فِيمَا لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ، وَأُخْبِرَ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ، فَتَنَبَّهْ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَضَابِطُهُ: أَنَّكَ تَعْرِضُ مَسْأَلَتَكَ عَلَى الشَّرِيعَةِ، فَإِنْ صَحَّتْ فِى مِيزَانِهَا، فَانْظُرْ فِى مَآلِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالِ الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ ذِكْرُهَا إِلَى مَفْسَدَةٍ، فَاعْرِضْهَا فِى ذِهْنِكَ عَلَى الْعُقُولِ، فَإِنْ قَبِلَتْهَا، فَلَكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِيهَا إِمَّا عَلَى الْعُمُومِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا تَقْبَلُهَا الْعُقُولُ عَلَى الْعُمُومِ، وَإِمَّا عَلَى الْخُصُوصِ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ لَائِقَةٍ بِالْعُمُومِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِمَسْأَلَتِكَ هَذَا الْمَسَاغُ، فَالسُّكُوتُ عَنْهَا هُوَ الْجَارِى عَلَى وَفْقِ الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ». 8- الرفق والرحمة واللين فى الخطاب، حتى مع المسيئين، وهذا ما علمنا إياه القرآن فى قوله تعالى لموسى وهارون لما أرسلهما إلى فرعون الذى طَغَى ?فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى?، وفى قوله تعالى لرسولنا الكريم: ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ? ومن النماذج الرائعة فى هذا الباب: ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الرجل الذى بال فى المسجد، فهَمَّ الناس أن ينالوا منه، فقال لهم: «دَعُوهُ وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ دَلْوا مِنْ مَاءٍ فَإنّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسّرِينَ» والداعية يجب أن يمثل القدوة فى التزامه بهذا الخلق الكريم؛ حتى يكون لخطابه الدعوى استجابة فعلية وأثرٌ بليغٌ فى نفوس المدعوين وفى حياتهم، وحتى فى حال إساءة البعض للداعية فإنه يجب ألا يستفزه ذلك للرد على الإساءة بإساءة، بل إن دستور الداعية فى ذلك ما دعا إليه القرآن فى قوله تعالى: ?وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِى حَمِيمٌ?. 9- تفعيل النقد الذاتى والقبول التام بالتقييم والمراجعة المستمرة للأخطاء، فالمراجعة فى الفعل البشرى أمر شرعى، كان النبى يربى عليها أصحابه، ويقول كما فى صحيح البخارى: «وَاللَّهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا»، هذا نوع من المراجعة للوصول إلى ما هو خير وأفضل، وهو توجيه للدعاة للإقرار بأوجه القصور فى الخطاب الدعوى بكل صراحة وشفافية، والحرص على معالجة هذا القصور بكل أمانة وصدق. 10- الالتزام بضوابط الحوار الشرعية فى الخطاب الدعوى، من خلال الإخلاص فى البحث عن الحقيقة، والاهتمام بالموضوعية، والتواضع، والالتزام بأدب الخطاب، والسماع بعناية لوجهة النظر الأخرى، والتحديد الدقيق للمشكلة المطروحة للحوار، وقبول الحجة المنطقية، والبعد عن التعميمات فى الحكم، وإجراء الحوار بحسن نية، والصبر على الرد على وجهات النظر المقابلة، والالتزام بالضوابط التسع السابقة. أسأل الله التوفيق لما يحبه ويرضاه.