متى يمكِّن الله لنا فى الأرض؟ متى يدافع الله عنا؟ لقد أفاض القرآن فى الإجابة عن هذا السؤال، وأخبرتنا آياته بأن للنصر والتمكين شروطا؛ بها يستدعى ويستجلب. منها قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، {إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}. ولكى يتغير حال الأمة من المرض إلى الصحة فلا بد من وجود من يأخذ بيدها، ويدلها على الدواء، ويعينها على تغيير ما تلبست به مما يغضب الله عز وجل.لا بد من العمل على بث الروح فى الأمة ليتغير حالها.. لا بد من أن يتضح لأبناء الأمة الإسلامية طريق الصلح مع الله حتى يغير الله ما بها. لا بد من بث العاطفة الجياشة لنصرة الدين وبذل النفس والنفيس من أجله، وهذا لا يحدث إلا بتغيير حقيقى لما فى النفوس؛ يشمل التصورات والاهتمامات والسر والعلن، والأقوال والأفعال.. تغيير يعيد تشكيل العقل، ويمكن للإيمان فى القلب، ويطرد منه حب الدنيا، فينعكس ذلك على السلوك والتصرفات. نعم.. هى مهمة صعبة.. مهمة إحداث تغيير حقيقى فى النفوس. إن قيادة الأمة فى وقت الضراء مهمة صعبة، طريقها ملىء بالأشواك والمعوقات والمثبطات.. ولكن، وكما يقول الإمام حسن البنا رحمه الله "قد تكون الطريق طويلة، ولكن لا طريق غيرها". وهنا يأتى دور الجيل الموعود، فهو الجيل المنوط به مهمة تغيير الأمة، وتهيئة أرضها لاستقبال المدد الإلهى، وعلى قدر الجهد الذى سيبذل فى إيجاد هذا الجيل وعلى قدر ما سيبذله هذا الجيل فى إيقاظ الأمة وبث الروح فيها. على قدر ذلك كله سيأتى المدد الإلهى المنهمر الوفير. والتاريخ يخبرنا بأنه بمجرد ظهور شعاع النور، وإعلان بداية استيقاظ المارد وتململه من القمقم الذى وضع فيه، فإن جميع القوى الكافرة التى تحيط بأمتنا ستتوحد ضدنا، وتعمل على إطفاء هذا النور، وإجهاض الأمل، والقضاء على المشروع الإسلامى. ستكون مقاطعة شاملة من الجميع، وستزداد الضغوط على كل مكان تُرفع فيه راية الإسلام. ستكون ضغوطًا شديدة لتفت فى عضد الأمة، وتعمل على تركيعها، ومن المتوقع أن تُحدث هذه الضغوط ضيقًا وتذمرًا بين عموم الناس، فهم إن كانوا قد أعلنوا تأييدهم للإسلام، واستعدادهم للتضحية من أجله، فإنهم قد لا يستطيعون تحمل توابع المقاطعة، كحرمانهم من بعض احتياجاتهم الأساسية فضلا عن الترفيهية والكمالية.. هنا يأتى دور الجيل الموعود الذى سيعمل جاهدًا على توفير احتياجات الناس، وبث روح الأمل فى نفوسهم، والعمل على تثبيتهم، ورفع معنوياتهم، وربطهم بالله عز وجل. معنى ذلك أن هؤلاء الخُلَّص لن يناموا فى هذه الظروف إلا بعد أن ينام الناس، ولن يأكلوا إلا بعد أن يطمئنوا أن الطعام قد وصل للجميع. دور خطير ينتظر هذا الجيل فى بداية وجود الدولة الإسلامية، لو لم ينهض به لضاع كل شىء، ولعادت الأمور إلى أسوأ مما هى عليه والعياذ بالله. هذه المراحل، وهذه الأوضاع الصعبة، مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه من الجيل الأول.. جيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، الذين كانوا بمثابة الركائز التى قام عليها المجتمع المسلم فى المدينة... هذا المجتمع تعرض فى بداية تكوينه إلى ضغوط شديدة، ومحاصرة، ومقاطعة، وتهديدات، وحروب. قال أبو العالية فى تفسير قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 55]. قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وإلى عبادته وحده لا شريك له سرا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين يُمْسون فى السلاح ويُصبحون فى السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله، ثم إن رجلًا من الصحابة قال: يا رسول الله... أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟! أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم فى الملأ العظيم محتبيا ليست فيه حديدة))، وأنزل الله هذه الآية، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فآمنوا ووضعوا السلاح.وقال البراء بن عازب: نزلت هذه الآية ونحن فى خوف شديد. إذن فهناك فترة قاسية ستمر بها الأمة، وخاصة فى الأماكن التى سترتفع فيها راية الإسلام. فإن قلت: ولماذا تمر الأمة الصاعدة بهذه الفترة؟ ولماذا ستُترك لهذه الفتنة العظيمة وهى تقف بمفردها أمام العالم أجمع؟! كان الجواب فى قوله تعالى: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 1-3]. فهذه الفترة تُعد بمثابة امتحان لمدى صدق الأمة فى حبها لله وتعلقها به وتوكلها عليه، ومدى استعدادها للتضحية من أجله، وهى فترة المخاض الأخيرة لولادة الأمة الفتية القوية. ومن فوائدها كذلك أنها تقطع تعلق القلوب بما سوى الله، وتُجَرُّدها له سبحانه.. فعندما تنقطع الأسباب المادية، وينعدم الصبر، وتشتد الخطوب، لا تجد الأمة أمامها إلا الله عز وجل فتهرع إليه، وتدعوه دعاء المضطر المشرف على الغرق.. حينئذ يأتى الفرج، ويأتى النصر والتمكين: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214].