يحدثنا التاريخ عن أحوال من عاشوا على ظهره، ودرجوا فى ساحته فيذكر رجالا بالخير، وآخرين بغير ذلك، ويعدد مكاسب البشرية من الخيرين، وخسائرها من البائرين، وربما يجد الإنسان من يجرى الله الخير على يديه كثير النفع عظيم الفائدة بحيث يعم فضله الآفاق ويفيض على المشارق والمغارب، وربما يشاهد المرء الإنسان الجالب للشر تعم لعنته ما بين الخافقين كذلك، فيكون لهيبا على أمته ولعنة على جيله وقد تشاهد هذه الأمم المنحوسة الكثير من هذا الصنف البائس، والعديد من ذلك النوع المجرم الخاسر الذى تسبب فى هلاك الناس وقطع أرزاقهم وسفك دمائهم، وتشريد أسرهم، وما ذلك لذنب اقترفوه، أو جرم ارتكبوه، وإنما لوقوفهم أمام رغباته الخائبة وأهوائه الجامحة، وساعدهم على ذلك سلطات تسللت إلى حكمها بدون رقيب، وتمكنوا من رياستها بغير حسيب واستطاعوا أن يلووا أعناق الحقائق ويزوروا صفحات التاريخ ويمتلكوا التوجيه وأساليب القوة لتكميم أفواه الناس وقطع ألسن الناصحين والمخالفين. ودعوى القوى كدعوى السباع ** من الناب والظفر برهانا استطاعوا جمع المحتاجين مستغلين حاجتهم، وتجييش الفقراء ضاغطين على عوزهم، وتسخير أهل الأهواء بإشباعهم لشهواتهم وسكوتهم عن جموحهم وضلالهم، وموجهين أهل الإعلام لخدمة أغراضهم وتوجيه جموحهم، وإغرائهم بالمال الحرام وإباحتهم لذهب المعز الذى غاب سيفه، فزوروا التاريخ، وسودوا الحقائق وأضاعوا الطريق وسادت العماية وغابت أو غيبت شموس المعرفة وانتشرت الشياطين فى كل مكان لتفعل بالأمة الأفاعيل فى هذا الجو البائس الحقير، فيئس أهل الخير وانزوى أصحاب الرأى والفكر والإخلاص، وانساحت الجهالة والعماية وطمت وعمت، وانعدم الضمير وحل النفاق محل الإيمان وتمحورت الرذيلة بدل الفضيلة، وحورب الإسلام وعلماؤه واستبيحت تعاليمه وشرائعه وأهله، واستسلم الناس بعد ذلك كله لأى شىء، ومارسوا النفاق والضلال وصاروا يلقنونه الناس، كإرشادات ونصائح صائحين. إن قيل هذا شهدكم مر فقولوا علقم أو قيل إن نهاركم ليل فقولوا مظلم أو قيل إن جفافكم سيل فقولوا مفعم أو قيل إن بلادكم يا قوم سوف تقسم فتحمدوا وتشكروا وترنحوا وترنموا وبعد كل هذا البلاء المبين وقف المجاهدون الربانيون فى وجه هذا التيار الأسود وتلك الرياح الهوج متعملقين صامدين، يتعاملون معه بمسئولية ومتحملين طوفان الأذى الذى لا تتحمله الرواسى، لأن ذلك يوجبه عليهم دينهم ورجولتهم وحبهم لرسالتهم وأوطانهم وخوفهم من خالقهم سبحانه. فى كل بلوى تصيب العبد عافية ** إلا البلاء الذى يودى إلى النار ذاك البلاء الذى ما فيه عافية ** من البلاء ولا ستر من العار واستمر معهم هذا البلاء وامتد وتواصل أكثر من ستين عاما، بين اعتقال وسجن وأحكام قاسية وإعدامات باغية بغير ذنب ولا جريرة، واستمر هذا التجنى وهذا القهر، بل اشتد جيلا بعد جيل، واستغل أعداء الإسلام هذا لضرب الوحدة الوطنية، وخلق صراع بين العاملين للإسلام والسلطات، أدى هذا إلى حرمان الأمة من نخبها المخلصة وجمهورها الأمين على مقدراتها، واستغلت ذلك السلطات الخربة لتستعين بالأجنبى ضد شعوبها المقهورة، فجعلت من الإسلاميين فزاعة تحرض بها الغرب باسم الإرهاب، وأفلحت فى ذلك وساعد على ذلك أمران، الأول: جنوح الغرب إلى جعل الإسلام عدوا، والثانى: التحريض الإسرائيلى المستمر على الإسلاميين وتأثير ذلك على الغرب المتبنى للسياسة الإسرائيلية، هذا عدا جنوح كثير من المنتفعين والمنافقين فى الشعوب إلى مساعدة الأنظمة فيما تهوى وتشتهى، فتكون من كل ذلك زخم صك الأسماع وأرهب النفوس ولكنه وللحقيقة لم يفزع الرجال لأنهم يعرفون أن هؤلاء كما يقول المثل الشعبى (زى الطبل صوت عالى وجوف خالى) لا خير فيهم (لأن اللى ملوش خير فى أهله ملوش خير فى الناس) وكل هذا وذاك كون لونا من العذاب النفسى والألم الجسدى الذى كان يقوم به أنصار الباطل الفارغ لتوهين العاملين فى الحقل الإسلامى المكافح للفساد والظلم، والبغى والعدوان،كما كانوا يحرضون الظلمة ويحلون لهم ما يفعلون على صفحات الصحف، ويهللون أثناء سلخ الضحايا ويرددون صيحات الفرح والأسود البشرية تنهش لحوم الشهداء، بغير حياء ولا ضمير. يخوض إلى المجد والمكرمات ** بحار الخطوب وأهوالها وإن ذكرت للعلا غاية ** ترقَّى إليها وأهوى لها وبعد: فحديثنا هذا سيكُون وثيقة لا تدين نظاما بعينه فقط، بل تدين جيلا بأكمله؛ لأن هذه الأنظمة الفاسدة لم تقو على ارتكاب هذه الفظائع إلا بعد أن استخف بالإنسان على الخريطة القومية والعربية كلها. ومن العجيب والمخجل أن ترتكب هذه الفظائع تحت شعارات براقة، ولكنها كاذبة بينة الكذب، مثل شعار (الحرية) والأفواه مكممة، (والعزة) والذلة قد مرغت الهامات فى الأوحال، وبعد أن امتهنت الإنسانية لدرجة الفضيحة، واستبيحت الشعوب حتى الثمالة، هذا وقد خدع الكثير الكثير لا أقول من عامة الناس فقط ولكن من رأس الهرم الثقافى والسياسى من هؤلاء السحرة الضالين زمنا طويلا، والآن وبعد كل هذا الألم وكل هذا التيه، هل استطاع المواطن العربى أن يصل إلى مرحلة الوعى بحيث لا يسمح للجريمة بالتكرار من جديد؟ وهل آن للذين بغى عليهم الجلادون ورفضوا الظلم بكل شجاعة وإباء أن يتجاوزوا آثار تلك التجارب المريرة والغائرة فى النفوس إلى شاطئ العمل والإنتاج، وأن يتعملقوا فيه كما تعملقوا فى تلك المحن؟ نقول: نعم، فهم بحول الله وقوته قادرون على تجاوز التجارب المريرة، ليأخذوا بيد هذا الشعب الجريح هم وإخوانهم من المجاهدين حتى يوصلوه إن شاء الله إلى مكانته التى يستحقها. يا من يرى عمرا تكسوه بردته ** الزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقا ** من خوفه وملوك الروم تخشاه يا رب فابعث لنا من مثلهم نفرا ** يشيدون لنا مجدا أضعناه وأخيرا ينبغى أن نقول: _ إن سيادة القانون لا تصنعها القرارات بقدر ما يصنعها وعى الشعوب وشجاعتها. _ والعزة لا تنال بالنوم والكسل والتيه، وإنما تنال بالعمل والعزم وتحقيق الأمانى والطموحات. _ والمجد لا يتحقق باقتراف الشهوات، وإنما بالعلم والكفاح والصبر. دببت للمجد والساعون قد بلغوا ** جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم ** وعانق المجد من أوفى ومن صبرا لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله ** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر وصدق الله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}.. ودائما أبدا يظل الرجال جبالا، لا يثنيها عن عزمها الأهوال والمحن ولا جور الظالمين وعبث المجرمين. لا تأسفن على غدر الزمان لطالما ** رقصت على جثث الأسود كلاب لا تحسبن برقصها تعلو على أسيادها ** تبقى الأسود أسودا والكلاب كلاب تموت الأسد فى الغابات جوعا ** ولحم الضأن تأكله الكلاب وذو جهل قد ينام على حرير ** وذو علم مفارشه التراب ودرج الرجال أصحاب الأهداف الكبار على وجه الزمان المظلم فأناروه وأظهروا له قمرا، وعلى صفحات الأيام السود فأطلعوا لها فجرا وأضاءوا له شمسا، وسطع شعاع الحرية الذى أطل على الناس اليوم وفرح المؤمنون بنصر الله.