في تصرف ليس مستغربًا من الانقلابيين بالمنطقة العربية الذين يديرون الملفات من طرفٍ خفيٍّ، انسحب اليوم خليفة حفتر من مفاوضات موسكو التي ترعاها تركياوروسيا، بعد إعلان وقف إطلاق النار، والتي انطلقت أمس. وعاد خليفة حفتر إلى أبو ظبي من حيث أتى، بعدما نفَّذ قرارًا مسبقًا برفض التوقيع على وثيقة تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، وبعد مراوغات استمرت ل11 ساعة متصلة. وكان حفتر قد وصل إلى العاصمة الروسية من أبو ظبي، ومعه أربعة من مستشاري ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، وليس من بنغازي كما أشيع، بينما وصلها عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب المنعقد بطبرق، من القاهرة. وجاءت مغادرة حفتر بعد مشاورات مع حلفائه في أبو ظبي، الذين أوصوه بالمماطلة لإطالة أمد المفاوضات؛ بهدف الحصول على مكاسب أكبر قبل توقيع اتفاق نهائي لوقف القتال. ورغم توقيع وفد حكومة الوفاق، الذي ترأسه رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، على وثيقة الاتفاق في وقت مبكر أمس، دون أي مطالب، وغادرا موسكو مساء اليوم ذاته، إلا أن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف فاجأ الجميع بالقول إن حفتر “طلب بعض الوقت الإضافي حتى الصباح لاتخاذ قرار بشأن التوقيع”. نقاط التماس وكان حفتر قد اعترض أولاً على بنود تحديد نقاط التماس بين قواته وقوات الحكومة، وطالب بإضافات في هذا البند من شأنها أن تحفظ أماكن تمركز قواته في جنوبطرابلس، بل وتمكينه من منطقة السدادة التي تقع على بعد 90 كم شرق مصراتة. واستمرت مماطلات حفتر، بحسب مصادر إعلامية، باعتراضه لاحقا على أن اتفاقه مع الحكومة “يعد اعترافًا منه بها”، مشددًا على أنها “لم تحظ باعتراف مجلس النواب”، وبعد استعصاء تنفيذ مطالبه؛ لأن الحكومة تستمد اعترافها من قرار أممي، عاد وطالب ب”ضرورة إلغاء الاتفاقات الموقعة بين حكومة الوفاق والحكومة التركية”، مصرا على مطلب حل قوات الحكومة باعتبارها مليشيات. وبحسب مراقبين ليبيين، فإن حفتر لن يقدم على إنهاء الخلافات إلا إذا وافقت القاهرةوالإمارات اللتين تدعمان عدوانه وتشاركان فيه، ف”تمطيط الوقت هو المسار ذاته الذي انتهجه حفتر مع كل الاتفاقات السابقة في باليرمو وباريس، وحتى اتفاق أبو ظبي بينه وبين السراج في فبراير الماضي”. مصير مفاوضات برلين تلك التطورات تضع مؤتمر برلين، المقرر في 19 يناير الجاري، بلا معنى، حيث إن كل ما تسعى إليه موسكو هو سحب البساط من تحت أرجل الأوروبيين، الذين يحاولون حصر حل إشكالات الملف الليبي في دهاليز وأروقة برلين، وتقاسم مصالحهم فيه حصرًا، لذلك أكد الروس استمرار جهودهم من أجل إنجاح سياستهم القائمة على وقف إطلاق النار كمرحلة أولى، حتى بعد انسحاب حفتر. وتتضمن بنود وثيقة اتفاق وقف إطلاق النار عدة نقاط تتسق مع خطط المبعوث الأممي لدى ليبيا، غسان سلامة، كإشارة ل”عدم خروج المساعي الروسية عن جهود الأممالمتحدة في ليبيا”، لكن الأكثر لفتًا للأنظار، هو البند الأخير الذي يشير إلى أن “اللجان التي ستنبثق عن الوثيقة، سواء المشرفة على إطلاق النار أو التي تعد صياغة وطنية ليبية للحل السياسي، ستعقد أولى جلساتها في موسكو”، وهو ما يعني رغبة روسيا في التفرد بالملف الليبي بعيدا عن دول الاتحاد الأوروبي. ولم تشارك البعثة الأممية في ليبيا، ممثلة في غسان سلامة، في مفاوضات موسكو، الاثنين، واكتفت ببيان ترحب فيه بالاتفاق على وقف إطلاق النار، دون الإشارة إلى الجهود الروسية. يشار إلى أنَّ الجانبين الروسي والتركي استثمرا جهودهما في الوضع الراهن الذي تعيش فيه دول الاتحاد الأوروبي حالة من الانقسام الواضح في مواقفها وأهدافها تجاه الملف الليبي. كيف ستنتهي المماطلة؟ ولعل الدور الذي تلعبه روسيا بات مرتبطًا بوجود حكومة الوفاق بشكل كبير، من خلال حلفها الجديد مع الحكومة التركية، التي باتت هي الأخرى تمتلك مصالح استراتيجية قوية مع الحكومة في طرابلس، وبالتالي فمشروع حفتر العسكري، الذي تدعمه دول على رأسها الإمارات، لا يمكن لروسيا أن تسمح بتنفيذه، فكما أرغمته على وقف إطلاق النار وهو على بعد أميال من طرابلس ومصراتة، يمكنها اليوم إرجاعه لبيت الطاعة الروسي مجددا. بل إن الأهمية الروسية بالنسبة لحفتر أكثر من الأهمية الإماراتية، ف”روسيا هي التي أنقذته من أزمات اقتصادية كادت تطيح به عدة مرات، عندما سمحت له بطباعة أوراق النقد الليبي بمطابعها بالمليارات أكثر من مرة”، وذلك مقارنة بالدور الإماراتي، حيث جاءت حاملة الطائرات الروسية (أدميرال كوزنيتسوف) لترسو قبالة بنغازي في العلن، واستضافت على متنها حفتر، بل ولم تخف أنها وقعت معه اتفاقات على ظهرها، وهي أول من أعطته الصفة الرسمية بأن استقبلته كمسئول رسمي في مقراتها الحكومية في موسكو”. ورغم مشاغبات السيسي وأبو ظبي والبقية في الملف الليبي، يتوقع خبراء أن حفتر سيعود لتوقيع الاتفاق لاحقا؛ لأنه يعلم أنه في حال توقيع الاتفاق سيفقدون أهم أوراقهم الضاغطة على طرابلس ومصراتة، ولذا عليهم المماطلة أكثر للحصول على مكاسب من أوراقهم العسكرية الحالية قبل التوقيع، وربما يلجأ حفتر إلى إحداث أكثر من خرق للهدنة الحالية للتلويح بأوراق قوت، وهو ما يتصادم تماما مع الموقف التركي. تهديدات أردوغان من جانبه، هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “حفتر” بعد هروبه من موسكو، بأن تركيا لن تسمح له بالتقدم خطوة واحدة تجاه طرابلس أو إيذاء المدنيين الليبيين. كما قال وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، اليوم الثلاثاء: إن قرار خليفة حفتر عدم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار مع حكومة الوفاق الوطني، المعترف بها دوليا، يُظهر من يريد الحرب ومن يريد السلام. وقال جاويش أوغلو في أنقرة إن تركيا فعلت ما بوسعها لتنفيذ وقف إطلاق النار، مضيفا أنه إذا استمر حفتر في التصرف على هذا النحو فإن قمة بشأن ليبيا من المزمع عقدها في برلين يوم الأحد ستصبح بلا معنى.