ما دامت الحياة تسير بسننها، والحوادث تقع بأسبابها، والأعمال تؤدى إلى نتائجها، فإن الانهزام والصعود يكونان بما كسبت أيدى الناس، وبما ذاقوا من أفعالهم وسيرهم. يدل على هذا كتاب ربنا وتوجيهات رسولنا : قال تعالى: ((وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير))، وقال تعالى: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)). وفى الحديث الذى رواه مسلم رضى الله عنه: "إنما هى أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه". ونسمع فى التاريخ أنه لما قدمت منهزمة الروم على هرقل وهو فى أنطاكية، دعا رجالا من عظمائهم وقادتهم، وقال: ويحكم، أخبرونى ما هؤلاء الذين تقاتلونهم من المسلمين حتى تنهزموا أمامهم، أأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافا فى كل موطن، قال: ويلكم، فما بالكم تنهزمون كلما لقيتموهم؟ فسكتوا، فقال شيخ منهم: أنا أخبرك أيها الملك من أين تؤتون، قال: أخبرنى، قال: إذا حملنا عليهم صبروا، وإذا حملوا علينا صدقوا، ونحمل عليهم فنكذب، ويحملون علينا فلا نصبر. قال: ويلكم فما بالكم كما يصفون وهم كما تزعمون؟ قال الشيخ: ما كنت أراك إلا وقد علمت من أين هذا؟ قال له: من أين هو؟ قال: لأن القوم يصومون النهار ويقومون الليل، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يظلمون أحدا ويناصفون فيما بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر ونزنى ونرتكب المحرمات، وننقض العهد ونغصب ونظلم، ونأمر بما يسخط الله، وننهى عما يرضى الله، ونفسد فى الأرض. قال: صدقتنى: والله لأخرجن من هذه القرية، فما فى صحبتكم خير وأنتم هكذا، قالوا: كيف هذا أيها الملك؟ أتدع سوريا وهى جنة الدنيا وحولك من الروم عدد الحصى والتراب ونجوم السماء من الجند والأعوان. وخرج الرجل لأنه يعلم أن هؤلاء بهذه الصفات لا يصلحون أن يواجهوا المسلمين أو يصبروا على حربهم. إذن لا بد لهذه الأمة حتى تصمد من تربية وصفات حميدة، وحق أبلج وعقيدة دافعة، وحب للتضحية وهى معدومة فيهم، فلا بد من الهزيمة، فهؤلاء القوم، وكل أمة تفتقد هذه الصفات، مصيرها إلى الهزيمة والزوال، وكل أمة سادت فيها هذه الصفات فهى فى صعود ورقى ونصر مؤزر. عن سعد بن أبى وقاص -رضى الله عنه- قال: رأيت أخى عمير بن أبى وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج إلى بدر يتوارى، فقلت: مالك يا أخى؟ قال: إنى أخاف أن يرانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرنى فيردنى، وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقنى الشهادة، قال: فعُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستصغره، فقال: ارجع، فبكى عمير، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سعد: فكنت أعقد له حمائل سيفه من صغره، فقاتل فى بدر وهو ابن ست عشرة سنة حتى استشهد رضى الله تعالى عنه. هذه التضحية وحب الشهادة لرفعة دين الله فى الأرض، وهذه العقيدة الدافقة الدافعة، هل يمكن أن يقوم أمامها شىء أو يصمد أمامها جبان يحب الحياة ويلغ فى الشهوات؟. روى أن جعفر بن أبى طالب لما استشهد فى قتال الروم فى مؤتة دعا الناس عبد الله بن رواحة ليولوه القيادة، وكان فى جانب من المعسكر ومعه ضلع يأكل منه، ولم يكن قد ذاق طعاما قبل ثلاث، فرمى بالضلع ثم تقدم فقاتل فأصيب أصبعه فارتجز قائلا: هل أنت إلا أصبع دميتِ وفى سبيل الله ما لقيتِ يا نفسى إلا تقتلى تموتى هذا حياض الموت قد صليتِ وما تمنيت فقد لقيتِ إن تفعلى فعلهما هديتِ وإن تأخرت فقد سقيتِ ثم قال: يا نفس، إلى أى شىء تتشوقين؟ قد طلقت الدنيا ثلاثا، ثم نزل فقاتل الجموع الكثيفة ثم قال: أقسمت يا نفسى لتنزلنه لتنزلنه أو لتكرهنه ما لى أراك تكرهين الجنة فطالما قد كنت مطمنئة هل أنت إلا نطفة فى شنة قد أجلب الناس وشنوا الرنة هؤلاء كانوا فى الجهاد كالجبال الرواسى، لا تستطيع الدنيا أو الشهوات أن تنال منهم أو أن تلهيهم عن أمر الله سبحانه، هذا فى الجهاد. أما فى أمور الدنيا وشأن الملك، فهم إخوة لا يمتاز أميرهم عن فقيرهم، بل إن أميرهم يكون أثقل الناس حملا، لا ينام عن أمر الرعية ولا عن مصالحهم وحاجاتهم، وإلا يكون قد خان الأمانة. عن عطاء قال: "دخلت على فاطمة بنت عبد الملك، بعد وفاة عمر بن عبد العزيز، فقلت لها: يا بنت عبد الملك، أخبرينى عن أمير المؤمنين، قالت: أفعل، ولو كان حيًّا ما فعلت. إن عمر رحمه الله كان قد فرغ نفسه وبدنه للناس، كان يقعد لهم يومه، فإن أمسى وعليه بقية من حوائج يومه وصله بليله، إلى أن يفرغ من حوائج الناس، ثم يدعو بسراجه الذى كان يسرج له من ماله، ثم قام فصلى ركعتين، ثم أقعى واضعا رأسه على يده فتسيل دموعه على خده، يشهق الشهقة فأقول: قد خرجت نفسه وتصاعد كبده، فلم يزل كذلك ليلته حتى يبرق الصبح، ثم أصبح صائما، قالت: فدنوت منه فقلت: يا أمير المؤمنين، لَشىءٌ ما.. قبل الليلة ما كان منك. قال: أجل، فدعينى وشأنى وعليك بشأنك. قالت: فقلت له: إنى أرجو أن أتعظ. قال: إذن أخبرك، إنى نظرت إلى فوجدتنى قد وليت أمر هذه الأمة صغيرها وكبيرها، وأسودها وأحمرها، ثم ذكرت الغريب الضائع، والفقير المحتاج، والأسير المفقود، وأشباههم فى أقاصى البلاد وأطراف الأرض، فعلمت أن الله سائلنى عنهم، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم حجة، فخفت على نفسى خوفا دمعت له عينى، ووجل له قلبى، فأنا كلما ازددت لها ذكرا، ازددت لهذا وجلا، وقد أخبرتك فاتعظى الآن أو دعى". هذه الرعاية وهذه التعاليم التى كانت تسير عليها هذه الأمة هى التى رفعتها إلى عنان السماء وهى التى قادتها إلى النصر المؤزر { إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [محمد]. أما الذين يضيعون هذه التعاليم ويسيرون فى الناس سير الوحوش ويفعلون بهم ما لا تفعله الشياطين، يأخذون أموالهم ويجلدون ظهورهم ويقطعون ألسنتهم، ويسوقونهم كالقطيع إلى حتفهم، فإنهم يهدمون أممهم ويضيعون أوطانهم، فلا عدالة ولا رعاية، ولا أمانة، ولا طهارة، ولا معروف ولا خوف من الله، ولا عقيدة ولا غاية ولا هدف، فكيف لأمة أن تتقدم أو ترتقى وقد خرقت كل القوانين وتخطت كل السنن فهلكت، وصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد. وعجيب أمر أمتنا ما إن يظهر فصيل إصلاحى إلا وتنبرى الأقلام لكبته، وتُسَلُّ السيوف لحربه، ونحن نعرف أن هذا منطق الباطل دائما مع الحق، مصداقا لقوله تعالى: { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17]، وكلما كثر الفساد وعم، وانتشر الباطل وطمّ، اشتد أوار المعركة، وحمى وطيسها، وكلما قوى الحق واشتد عوده، وظهر وانبلج نوره، فإن الباطل ينكشف، ويدمغه الحق ويصرعه، ويبيده ويزهقه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 10]. إذن فالمعركة مع الباطل حتمية، واللقاء به فى ساحة الأمم لا شك فيه، يستعمل الباطل فيها كل ما يملك من كذب وتضليل وقذارة فعل، ونذالة موقف، والأمثلة على ذلك اليوم وفى واقعنا المعاصر كثيرة ومتنوعة، تكشف عن الخبث والنفاق والانحدار، وتعرى أشخاصا ظنهم الناس فى يوم من الأيام أطهارا، فيهم مسحة من رجولة أو إيمان، فإذا بهم يتمرغون فى الحضيض؛ {مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيِّبِ} [آل عمران: 179]. وبهذا تظهر المعادن، وينكشف الغطاء ويظهر الحق من الباطل ويميز الله الخبيث من الطيب ويفرح المؤمنون بنصر الله.. { وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.