وسط الأجواء الاحتفالية بيوم الأم نجد أمهات تحيين حياتها بشكل مختلف تماما نجد أمهات تجنين ثمار ما ربت أبناءها عليه من حب الوطن والتضحية من أجل أن يصبح في مصاف الدول المحترمة.. من هذه النوعية الفريدة من البشر "انتصار محمد" والدة "عمر أشرف" طالب بكلية الهندسة وأحد المصابين في مذبحة فض رابعة. حيث استفاضت في مشاعرها ل"الحرية والعدالة" حول إحساسها كأم لأحد المصابين تقول: أصيب "عمر" برصاصة يوم مذبحة رابعة، أدت إلى تهتك جزء من المستقيم والأمعاء، دخلت الرصاصة من أعلى الفخذ اليمين ثم اخترقت البطن، ثم أخيرا خرجت من يسار الجسم، أي أن رحلة الرصاصة هذه استمرت نحو 60 سم في الجسم، ولذا فكل مكان كانت تأتي عليه الرصاصة كانت تصيبه بتهتك وقطوع! وعن تفاصيل كيفية الإصابة تردف: كان عمر في الشارع الموازي لطيبة مول، حيث كان من ضمن شباب التأمين لتلك المنطقة، ومن قدر الله تعالى أنه كان معه 27 شابا آخرين في التأمين، وجميعهم استشهدوا عن آخرهم. في حين ظل هو يتنقل حتى وصل لنقطة ما بجانب إدارة المرور تقريبا، وهنا كان بينه وبين أحد القناصة ما يقرب من 15 مترا، فأصابه على الفور. تتابع: بدأت رحلة العلاج بوضعه تحت الملاحظة مدة 24 ساعة، ثم بدأ العلاج الجراحي لاستئصال كافة تلك الأجزاء التي تهتكت، ثم ظل بعدها مدة ثلاثة أشهر في حالة طبية تسمي "تغيير مسار"؛ حتى يتم التئام الجزء الذي تم قطعه. وبعد هذه المدة خضع لجراحة أخرى لتصحيح المسار. وهكذا ظل "عمر" خاضعا لجراحات شديدة كبيرة الجراحة الأولى وحدها ظل فيها ثماني ساعات، والثانية استمرت أيضا 6 ساعات. وفي كل مرة وبعد كل جراحة تكون الفترة التالية أصعب بكثير من الجراحة نفسها. خاصة أن جسده الضعيف كان قد نزف كل ما به تقريبا، واحتاج إلى كمية كبيرة جدا من الدم، والمشكلة أنه مصاب بنوع خاص من أمراض الدم هو "أنيميا الفول"، ولذا فجسده لا يتقبل أي نوع من الدماء بسهولة، ولذا فمرحلة نقل الدم وحدها كانت بمثابة وضع حرج جدا بالنسبة له، وظلت درجة حرارة جسمه طوال الوقت مرتفعة، ولا نستطيع مجرد نقل الدم له. في حين أنه كان أقرب ما يكون لحال الاحتضار من شدة النزيف. كذلك لم يكن لديه وريد مناسب لوضع المحاليل أو ما شابه، بل كانت أغلبها في حال انسداد، حتى إن الأطباء الذين كانوا يبحثون عن الوريد فقط كان لا بد أن يكونوا من العناية المركزة حتى يتمكنوا من إيجاد مكان مناسب للحقن. وهكذا ظللنا أشهرا طويلة في معاناة. وحول حالتها كأم في تلك الأيام الحرجة من حياة عمر تقول "انتصار": كنت أخرج من عملي وأذهب إليه في المستشفى وفي أكثر الأيام أبيت معه أيضا، خاصة أنه كان يطلب مني هذا ويطمئن أكثر إذا ما ظللت إلى جواره ليلا، ولكني أضطر في أيام أخرى إلى العودة إلى المنزل لرؤية وللاطمئنان على الستة أبناء الآخرين. وعن ذكريات يوم المذبحة ويوم إصابة "عمر" تضيف: كنت معظم الأيام موجودة وأبنائي جميعهم في رابعة، ولكننا كنا نذهب لبعض الاحتياجات إلى المنزل فترات قصيرة ونعود، وفي ليلة المذبحة أنهيت جلستي في الميدان وتركت أبنائي هناك، وعدت للمبيت في المنزل، وفي الصباح عندما علمت بالمذبحة عدت إلى الميدان وتمكنت من الدخول مع إحدى المسيرات، وعندما رأيت أعداد الجثث والضحايا وأشكال الإصابات وكثرتها، احتسبت أبنائي بيني وبين نفسي عند الله تعالى ولم أتوقع أن أرى أحدهم على قيد الحياة، فقد كنت أدعو الله ألا يفتننا في ديننا فهذه هي المصيبة الحقيقية أما غير ذلك فالجميع يهون حتى الأبناء. تتابع "انتصار": لم أعلم بإصابة "عمر" إلا بعد أن خرجنا من الميدان وعدنا إلى المنزل، فحينها اتصل بعض من أصدقائه ليخبروا والده بأنه مصاب، وظننا حينها أنها إصابة بسيطة في القدم، وقد علمنا بعد ذلك أن الشباب الذين نقلوا عمر قاسوا الويل حتى يتمكنوا من إخراجه من الميدان وتوصيله إلى المستشفى، فالسائق عندما رأى حالته لم يوافق على توصيلهم، ولكنهم أصروا عليه، فوافق على أن يوصلهم لأقرب مستشفى وكانت "دار الحكمة" الخاصة بشارع عباس العقاد، وهناك رفضوا استقبال ابني أو أي أحد غيره وأغلقوا أبواب المستشفى بقوة ووضعوا خلف الأبواب المكاتب، وتركوا عمر أمام الباب ينزف ويقارب الموت، ولكن عندما وصل أبوه أخذ يصرخ فيهم ويؤكد لهم أنه سيدفع أكثر مما يطلبونه، وبالفعل دخل "عمر" المستشفى، في حين بقي شاب آخر جاء بعد ذلك ينزف في دمائه ولم يوافقوا على إدخاله نظرا لأنهم رأوا من حال أهله أنهم لن يستطيعوا دفع ما يريدون، وبالفعل تركوا هذا الشاب غارقا في دمائه وظلت أمه تبكي ولدها المشرف على الموت على رصيف أمام مستشفى ترفض فتح أبوابها للمرضى. ورغم أن "والد عمر" متوسط الحال، لكنه استدان من هنا وهناك، وطلب من عمله أيضا قرضا كبيرا حتى يستطيع جمع مبالغ الجراحة والنفقات. خاصة أن المستشفى في اللحظة الأولى أصرت على ترك مبلغ 20 ألف جنيه دفعة أولى تحت الحساب. في حين لم يكن متوافر معنا أكثر من خمسة آلاف فقط. تضيف: تلك الفترة من الطبع ابتلاء من الله تعالى، ولكن الله يعيننا فنتحمل ليس لقوة فينا، وإنما بفضل الله تعالى وحده. في حين أن ما يؤلمني أن "عمر" وهو الآن قد تماثل للشفاء بفضل الله، كان حزينا جدا لأنه خرج من تلك المذبحة ولم ينل الشهادة في حين نالها كل من كان معه من أصدقاء، ولكن من جهتي أخفف عنه هذا الشعور وأذكره بأنه من الممكن أن الله تعالى قد استبقاه لمهمة ودور آخر. وحول ما إذا كانت كأم لا تخشى على أبنائها أو ربما ندمت على هذا الطريق تقول: لا طبعا لم نندم على هذا الطريق أبدا، فلم يرزقني الله تعالى بحمل من أبنائي السبعة إلا وكنت أردد قوله تعالى: "رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ". وأفضل أن أجد ابني مقتولا على الشهادة في سبيل الله، على أن أجده يعيش يوما واحدا منعما ولكن بعيدا عن طاعة الله عز وجل. ولذا فمن كرم الله تعالى وفضله أن أجد أبنائي ممن يسيرون في طريق الله تعالى وفي سبيل نصرة دينه فهذا الكرم الرباني الذي أعفّر وجهي لله تعالى وأشكره عليه.