لأن الانقلاب مشغول بتكريم نوع من الأمهات ليس هو اللبنة الحقيقية للبلاد، وليس هو المعدن الأصيل للنساء المصريات؛ ولذا فنساء وأمهات مصر الحقيقيات يدفعن ثمن حرية وكرامة بلادهن بشكل آخر، وكل بحسب موقعها ودورها، والدكتور "ميرفت جليلة" إحدى هؤلاء الأمهات التي أبي الانقلاب إلا إهانتها في سجونه الظلمة، بل والحكم عليها بالحبس مدة سنتين مع الغرامة، ورغم خروجها بكفالة، إلا أنها الآن على بعد أيام قليلة من النظر في الاستئناف! وفي حديثها ل"الحرية والعدالة" حكت "جليلة" ما الذي يمثله دبوس رابعة هذا الذي تسبب في اعتقالها وحبسها، فقد روت تفاصيل أيام من اعتصامها هناك أسمته "المدينة الفاضلة".. كذلك روت ما شهدته في مذبحة الفض والذي كذبت فيه ما قاله تقرير حقوق الإنسان الذي طمس الحقيقة وأعمى عينه عنها. وهذا نص الحوار:
* بداية هل من تعريف سريع؟ - د.ميرفيت جليلة، أخصائية أشعة تخرجت في كلية الطب 1993، ماجستير أشعة 2002، وعملت في مستشفى ميت غمر، ثم سافرت للعمل في السعودية وعدت بعد ثورة يناير، عندي 3 أبناء أكبرهم في الثانوية العامة، ثم الصف الثاني الإعدادي، ثم الخامس الابتدائي. ومتزوجة من طبيب تخدير هو د.عصام العزب.
* ما تفاصيل واقعة الاعتقال؟ - اعتدت أن أذهب إلى المستشفى وأنا أضع دبوسا عليه علامة لميدان الاعتصام رابعة العدوية، وفوجئت في يوم 28 يناير الماضي أن الممرضة المصاحبة لي تبكي، فسألتها ما بها؛ فقالت لي :"أرجوك يا دكتورة انزعي الدبوس سريعا لأن المدير كتب فيك مذكرة ويريد مني أن أوقع عليها". وهنا أشفقت عليها وأخبرتها أني لن أسيء الظن بها إذا وقعت على تلك المذكرة لأني أعلم أساليب المديرين إذا أرادوا الكيد لأحد. وبعد قليل جاء أحد مدعي المرض وتظاهر بأنه يسأل عن الأشعة؛ وبعد انصرافه قالت لي إحدى المريضات أن هذا الشخص التقط لي صورة بالهاتف المحمول، وبعد ذلك علمت أن هذا الشخص "بلطجي" شهير في المنطقة، فذهبت من فوري للدكتور عبد الحفيظ حسين مدير المستشفى لأرى ماذا يريد مني بالضبط، فوجدت في مكتبه هذا الشخص "البلطجي" وإذا بالمدير يقول لي: "انزعي الدبوس، أو لا تدخلي به المستشفى بعد الآن"؛ فتعجبت جدا لأني لم أؤذِ أحدا به ولم أفرض وجهة نظري، ولكني فقط عبرت عنها بطريقة بسيطة هادئة. وهنا دخل في الحوار مدير العيادات د."فتحي مطر" مهددا لي بالنكاية لي عند أمن الدولة، مكررين التصوير لي وكأن لدي جريمة يريدون أن يثبتوها، ومتفوهين بكلمات لا تليق أبدا أن تصدر عن أطباء أمثالهم. وبعد ما يقرب من عشر دقائق فقط من هذا وأثناء وجودي في مكتبي فإذا بضابط –معاون مباحث- يأتي للقبض عليّ، وادعى أن لديه إذنا من النيابة، ثم تبين كذبه بعدها ولم يكن معه هذا الإذن. وكان معه اثنان من الضباط هما: خالد مصطفى وعبد الحي البحراوي، أثنوه أن يتناقش معي وقالوا له: "هو انت هتتحايل عليها يا باشا"، وعندها فإذا بعاصفة من الضرب واللطم والألفاظ النابية تصدر تجاهي. وظلوا كذلك حتى اتجهوا بي إلى عربة "البوكس"، وهناك أخذ الضابط يزيد من جرعة الألفاظ النابية، فنهرته عن ذلك، وعندها ضربني في عيني بلطمة شديدة فأصبت بكدمة أسفل العين، وظللت لا أرى بها سوى خيالات مدة أسبوع كامل. وفي القسم –ميت غمر- أيضا استمر الضرب والألفاظ النابية بخلاف البصق في الوجه والتهديد بميتة وصفوا لها ملامح بشعة. واستمر هذا التعامل من قبل ضابط هناك يدعى "تامر" ومعه"عبد الحي البحراوي" فقد كان لسانهما سليطا ولا يتحدثان إلا سوءا واتهاما بالباطل، وصفعا باليد على الوجه، فضلا عن أنه في إحدى المرات حاول أحدهم شد حجابي إلى الأسفل لكنه بفضل الله لم يتمكن من نزعه أو كشفه هذا بخلاف سخريته مني ومن صيامي الذي كنت عليه وأنا رهن الاعتقال!
* وماذا حدث بعد ذلك؟ - تم تحويلي إلى النيابة في اليوم نفسه، وبت ليلتي في الحجز مع جنائيات، وهناك طلب الضباط من الجنائيات إلحاق الأذى بي بالداخل، في حين كان لهؤلاء الجنائيات قلب لم يوجد عند ضباط الانقلاب ومن على شاكلتهم، فقد رفضوا إيذائي، في حين تظاهرنا بالصوت أنهم بالفعل يقومون بضربي، حتى ينجوا من عقاب الضباط. لأن الصعق الكهربائي كان العقاب المنتظر لهن إذا رفضن أوامر الضباط. وخلاف ذلك فغرفة الحجز طبعا كانت ضيقة للغاية فعرضها لم يكن أكثر من 160سم تقريبا، وطولها حوالي 2م. سيئة الإضاءة طبعا وبلا دورة مياه، فمن أرادت الذهاب لدورة المياه عليها أن تظل تطرق باب الحجز حتى يحنّ عليها أحدهم ويفتح لها. وظللت في هذا الحجز 15 يوما، ثم تم ترحيلي إلى قسم منية النصر مدة 15 يوما أخرى. بعدها تم عرضي على المحكمة يوم 23 فبراير، والتي حكمت حكمها الجائر بالحبس عامين مع الشغل وغرامة 200 جنيه، في حين خرجت بكفالة لحين البتّ في الاستئناف والمقرر له 30 من مارس الجاري.
* ما موقف العائلة بعد علمها نبأ الاعتقال؟ - العائلة جميعها تقف بجانبي، وعكس بعض المواقف التي رأيتها من نساء متزوجات قاطعهن بعضا من أهاليهن بعد اعتقالهن، في حين أن الله تعالى منّ على بأن أهلي جميعا واقفون إلى جواري وكانوا يأتون لي في الزيارات، ولذا فجميعهم الآن متخوفون من تأكيد الحكم بعد الاستئناف، خاصة أن والدي -مصطفي عبد الحميد، محاسب سابق في الإصلاح الزراعي- مرِض بشدة بعد اعتقالي وأصيب بثقل في اللسان، وفي حركة رجله، ولم يسترد صحته سوى بعد خروجي من المعتقل، أما والدتي فهي مثل كل الأمهات بالطبع تخاف وتخشى عليّ جدا، وهي الآن تدعو الله أن يتم إلغاء هذا الحكم الجائر.
* ما ذكريات رابعة في قلبك التي جعلتك تحملين دبوسا سبب لك كل تلك المتاعب؟ - حضرت يوم مذبحة فض رابعة، فلم أكن موجودة في رابعة في هذا اليوم، ولكن عندما بدأت المذبحة جئنا-أنا وزوجي- نشارك في محاولة الحشد الخارجي لإيقاف الضغط على من بداخل الميدان، خاصة بعد علمنا بنبأ استشهاد عبد الرحمن خالد الديب، فقد كان من خيرة الجيران. ومن قبل ذلك كنت أذهب اعتصام رابعة خاصة أيام الجمعة نظرا لظروف العمل، وكانت أوقاتنا هناك عبارة عن صلاة وتلاوة قرآن وتسبيح وذكر وقيام ليل، وعن بعض المهمات البسيطة التي كنت أقوم بها كان الاشتراك في خدمة الصائمين مثلا تقديم التمر أو المياه عند الإفطار للقادمين الجدد إلى الميدان، كنت أشعر أننا في المدينة الفاضلة من فرط أخلاق الناس هناك وتعاملاتهم الطيبة، كنا جميعا لا فرق بين شخص وآخر مهما كان وضعه العلمي أو الوظيفي نتشارك جميعا في تنظيف الخيام، فرغم كوني طبيبة كنت لا أتكبر أبدا عن الإمساك بالفرشاة وتنظيف الخيمة، كذلك كان للإيثار هناك دور وحضور كبير، فرغم أن الجميع كانوا على صيام مثلهم مثل بعض إلا أننا كنا نجد من يضن بالطعام على نفسه ويتركه لغيره، أما عن الصلاة والذكر فقد كان لهما شعور آخر، فقد كنت أشعر أني أصلي في الحرم، لأني بفضل الله أديت فريضة الحج لأكثر من مرة، ولذا فنفسها المشاعر الإيمانية عادت قوية في قلبي. كذلك رأيت فتيات صغيرات يحملن زجاجات الرش ليرطبن على الناس في الأيام شديدة الحرارة، رأيت كذلك الرجال عندما كنت أريد المرور من بينهم لأي سبب كانوا يوسعون الطريق ويقفون على الجانبين لكي نمر أنا وغيري من النساء بلا أي حرج أو ضيق.
* وماذا عن ذكريات مذبحة الفض بالذات؟ - يوم مذبحة الفض لا أستطيع أن أنساه أبدا، فقد شعرنا أن الموت قريب جدا، ومن شهادتي على هذا اليوم أن طبيعة الغاز الذي كان يلقي لم يكن عاديا بالمرة، فقد سبق لي وتعرضت لرائحة الغاز المسيل للدموع، وأعلم جيدا رائحته وآثاره، أما في يوم المذبحة فرغم كوني كنت بعيدة جدا عن الميدان ولم أستطع الدخول؛ إلا أني بدأت أشعر حينها بحكة شديدة في الجلد وكلما كنا نقترب كنا نشعر بضيق شديد في التنفس، دخلنا زاوية صغيرة في إحدى العمارات بعيدة بعض الشيء عن الميدان، ولكني لا أتذكر اسمها خاصة أني غير قاهرية، وجلسنا هناك ما يقرب من ساعة حاولت خلالها مع زوجي إسعاف بعض المصابين الذين تمكنوا من الوصول إلى هناك، ومع ذلك لم تسلم تلك الزاوية من ضرب النار، فقد بدأ يصيب نوافذها وبدأنا نحن في الانبطاح على الأرض، وهنا ظننا جميعا أننا سنلقى الشهادة وبدأنا في الاستعداد النفسي ومراقبة النيات والإخلاص لله عز وجل. وبعد فترة قصيرة بدأنا في إخلاء هذا المكان وتحويل المصابين إلى مكان آخر وظللنا هناك حتى صلاة العشاء ثم غادرنا. ومن أصعب الحالات التي رأيتها أحدهم كان مصابا بطلق ناري في الرقبة وكان ينزف من أثر ذلك. وبالطبع فهذا لأني ذهبت متأخرة فقد كانت الإصابات الأكثر خطورة قد حدثت قبلها.
* ما رأيك في تقرير حقوق الإنسان حول مذبحة رابعة بصفتك أحد شهود العيان؟ - هذا تقرير أبخس حق الشهداء والمصابين، كذلك فقد نفي تماما وجود الجيش في المذبحة، في حين أني رأيت هناك دبابات الجيش وأفراده يرتدون زي الجيش، وقد كان البلطجية يقفون إلى جوارهم، كذلك وبخصوص أعداد الشهداء فالرقم المذكور في التقرير قليل للغاية، وما رأيناه على خلاف ذلك تماما، حتى أننا علمنا أن محيطنا في المنصورة وحدها ما لا يقل عن 30 شهيدا ارتقوا في مذبحة رابعة، مع العلم أن الدقهلية كانت من أقل المحافظات مشاركة في الاعتصام لكثرة أعداد مؤيدي الانقلاب فيها، ومع ذلك نستطيع أن نحصي فيها 30 شهيدا. فما بالنا ببقية المحافظات. • ألم تفكري في ترك هذا الطريق الذي سبب لك كل تلك المتاعب؟ - لم يعد هناك مجال للتراجع، خاصة بعد كل تلك الدماء التي سالت، فظني أن الشهيد "عبد الرحمن الديب" قد أثقل الحمل علينا، فقد كان أحد مؤسسي المستشفى الميداني بميدان التحرير في جمعة الغضب 28 يناير 2011م ، هذا بخلاف أنه من الشباب المجتهد جدا في خدمة أبناء منطقته، على سبيل المثال ينظم مراجعات للطلاب، وكذلك أعد ملتقى بين رجال الأعمال والشباب الراغبين في العمل، ورغم أنه تخرج في كلية طب أسنان، وكان والده حينها عضوا بمجلس الشعب، إلا أنه رفض أن يتوسط له والده وأصر على أن يقبل تكليفه في الصعيد وبالفعل أمضى عام التكليف هناك. كذلك لم يترك اعتصام رابعة منذ اليوم الأول، ورغم أنه كان قد تحرك خارجا من الاعتصام لبعض حاجياته صبيحة يوم المذبحة ولكن عندما سمع صوت الضرب، عاد أدراجه وأصر على أن يبقى وقد كان من أوائل الذين استشهدوا يومها. والآن فما أريد أن أقوله للناس ألا يفقدوا الأمل في الله، فالشهداء أكثر دليل على أننا على الطريق الصحيح.