ليس بدعا من زعماء العالم الغربى، وصفهم لساسة وولاة فى دول الربيع العربى بالصالحين والطيبين كما ورد على لسان نائب الرئيس الأمريكى السابق، والطيور على أشكالها تقع، وكل يغنى على ليلاه، لئن كان طيبا وصالحا فليستفيدوا من صلاحه وطيبه فى ولاية من ولاياتهم الإحدى وخمسين، أين هذا الطِيبُ والصلاحُ من هؤلاء الولاة الطغاة الظلمة المفسدين، مع شعوبهم وأمتهم داخل بلادهم، وفى المحيط العربى، إن الأصل فى كل واحد من هؤلاء أنه "أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ" المائدة: 54 "أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ" الفتح: 29. مُمْقِرٌ[1] مُرٌّ على أعدائِهِ... وعَلى الأدْنَيْنَ حُلْوٌ كالعَسَلْ والواقع أنه كان عكس ذلك تماما، أَسَدٌ عَلَى وَفِى الْحُرُوبِ نَعَامَةٌ... ذُعْرًا تَنْفِرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ تظلّم أهل الكوفة إلى المأمون من والٍ كان عليهم فقال المأمون: لا أعلم فى عمّالى أعدل وأقوم منه. فقام رجل فقال: إن كان عاملنا بهذا الوصف فحق أن تعدل بولايته فتجعل لكلّ بلد منه نصيبا لتسوّى بالعدل بينهم. فإذا فعل أمير المؤمنين ذلك لا يصيبنا منه أكثر من ثلاث سنين. فضحك وعزله. إن الوالى الذى يعدل ولا يحسن، تتظلم منه الرعية يُعزل، فما البال والحال إذا كان لا يعدل ولا يحسن، والإحسان: ضد الإساءة، وقد يكون مقصودا به الإنعام والبر واللطف -قولا وعملا– أو قل المعاملة بالحسنى: على حد قول ذى القرنين "مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا" الكهف (88). وقد يكون مقصودا به الإتقان للعمل والتجويد له "إن الله كتب الإحسان على كل شىء" كما فى الصحيح، وقد يكون مقصودا به المراقبة لله وحسن طاعته كما فسّره النبى صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل، صلوات الله وسلامه عليه، فقال: «هو أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ؛ فإن من راقب الله أحسن عمله وفى عمله، ولذلك عظّم الله ثواب أهل الإحسان، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (البقرة/ 195) وقال عز وجل: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (الرحمن/ 60) أى ما جزاء من أحسن فى الدنيا إلا أن يُحسن إليه فى الآخرة. قال الفيروز أبادى: الإحسان أعمّ من الإنعام، وقال: الإحسان من أفضل منازل العبوديّة؛ لأنه لب الإيمان وروحه وكماله. وجميع المنازل منطوية فيها". والإحسان من عناصر التربية الواعية، وهو فى صورته العليا صفة ربّ العالمين، لأن الإساءة تنتج عن الجهل والعجز والقصور وما إلى ذلك من أوصاف مستحيلة على الله تعالى. وقد قرن الله -عز وجل- الإسلام بالإحسان، وجعلهما أفضل ما يتحلى به المسلم فقال عز من قائل: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ" النساء/ 125، وقال أيضا: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى" لقمان/ 22 وقد قرن الله تعالى الإحسان بالعدل وجعل الإحسان فوق العدل لعلمه سبحانه وتعالى أنه ليس كل النفوس تصلح على العدل بل تطلب الإحسان وهو فوق العدل فقال تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[2]". فلو وسع الخلائق العدل ما قرن الله به الإحسان. والعدل ميزان الله تعالى فى الأرض الذى يؤخذ به للضعيف من القوى والمحق من المبطل، وعدل الوالى يوجب محبته، وجوره يوجب الافتراق عنه، وأفضل الأزمنة ثوابا أيام العدل. قال عمر بن الخطّاب: يحتاج الوالى إلى أن يستعمل مع رعيّته فى عدله عليها الإحسان إليها، فلو علم الله تعالى أن العدل يسع الناس لما قرن الإحسان به فقال "إنّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ [3]". رُوِى أَنَّ جَمَاعَةً رَفَعَتْ عَامِلَهَا إِلَى أَبِى جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ الْعَبَّاسِى، فَحَاجَّهَا الْعَامِلُ وَغَلَبَهَا، بِأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا عَلَيْهِ كَبِيرَ ظُلْمٍ ولا جوره فى شىء، فَقَامَ فَتًى مِنَ الْقَوْمِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِنَّهُ عَدَلَ وَلَمْ يُحْسِنْ. قَالَ: فَعَجِبَ أَبُو جَعْفَرٍ من إصابته وعزل العامل[4]. جاء فى كتاب أرسطاطاليس إلى الإسكندر: «امْلك الرعية بالإحسان إليها؛ تظفر بالمحبة منها، فإن طلبك ذلك منها بإحسانك هو أدوم بقاء منه باعتسافك، واعلم أنك إنما تملك الأبدان فتتخطّاها إلى القلوب بالمعروف، واعلم أن الرعية إذا قدرت على أن تقول، قدرت على أن تفعل، فاجْهد ألا تقول تسلم من أن تفعل[5]». «كان أنوشروان إذا ولّى رجلا أمر الكاتب أن يدع –يترك- فى العهد موضع أربعة أسطر ليوقّع فيه بخطه فإذا أوتى بالعهد وقّع فيه: سُسْ خيار الناس بالمحبة وامزج للعامة الرغبة بالرهبة وسُسْ سفلة الناس بالإخافة[6]». «أسْوَسُ الملوك من قاد أبدان الرعية إلى طاعته بقلوبها[7]» أحسن إلى النّاس تستعبد قلوبهم... فطالما استعبد الإنسان إحسان قال سعيد بن عامر كان بالبصرة والٍ يقال له محمد بن سليمان وكان كلما صعد المنبر أمر بالعدل والإحسان. فاجتمع قوم من نسّاك البصرة فقالوا أما ترون ما نحن فيه من هذا الظالم الجائر وما يأمر به. فأجمعوا أن ليس له إلا أبا سعيد الضبعى. فلما كان يوم الجمعة احتوشوا أبا سعيد وهو لا يتكلم حتى يُحَرَّك فلما تكلم محمد بن سليمان حَرَّكُوه. وقالوا يا أبا سعيد، محمد يتكلم على المنبر يأمر بالعدل والإحسان. فقال يا محمد بن سليمان إن الله سبحانه وتعالى يقول فى كتابه العزيز "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ" يا محمد بن سليمان ما بينك وبين أن نتمنى أنك لم تُخْلق إلا أن يدخل ملك الموت بيتك. قال فخنقت محمد بن سليمان العبرة ولم يقدر على الكلام. فقام أخوه جعفر بن سليمان إلى جانب المنبر فتكلم عنه. قال: فأحبته النساك من حين خنقته العبرة. فقالوا مؤمن مذنب[8]. أُتِى المنصور برجلٍ أذنب فقال: إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان فإن أخذت فى غيرى بالعدل فخذ فىّ بالإحسان، فعفا عنه[9]. قال معاوية: «لا أضع سيفى حيث يكفينى سوطى ولا أضع سوطى حيث يكفينى لسانى، ولو أن بينى وبين الناس شعرة ما انقطعت، قيل: وكيف ذاك؟ قال: كنتُ إذا مدّوها خلّيتها وإذا خلّوها مددتها[10]». وقال على بن عبد الله بن عباس: تطلب محبة الرعية فطاعة المحبة أفضل من طاعة الهيبة[11] إن شر الناس من يهدم دينه ليبنى دنياه. شراء النفوس بالإحسان خير من بيعها بالعدوان. هذا وبالله التوفيق ومنه وحده العصمة من الخطأ والخلل والزلل فى القول والعمل. ________________________ [1] المُمْقِر: الحامض [2] النحل:90 [3] [البصائر والذخائر 7/ 32] [4] [تفسير القرطبى 10/ 168] [5] [عيون الأخبار 1/ 61] [صبح الأعشى فى صناعة الإنشاء 1/ 282] [6] [عيون الأخبار 1/ 61] [7] [عيون الأخبار 1/ 61] [8] [عقلاء المجانين لابن حبيب النيسابورى ص: 84] [9] [محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء 1/ 285] [10] [عيون الأخبار 1/ 62] [11] [محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء 1/ 213]