أثبتت جماعة الإخوان المسلمين قدرتها على اتخاذ مواقف عدوانية لا تراعى مشاعر المصريين ومواقف القوى السياسية الأخرى التى شاركتها العمل السياسى طويلاً ودافعت عن الإخوان المسلمين ضد الإجراءات القمعية التى اتخذت ضدهم لسنوات طويلة، فأقدم الإخوان المسلمون على هذا العدوان السافر على المعتصمين أمام قصر الاتحادية، وأصيب فى المواجهات مئات الشباب الأبرياء وسقط شهداء جدد تحت سمع وبصر رئيس الجمهورية. وفى نفس الوقت أثبت الإخوان قدرتهم على المناورة السياسية بصياغة الدستور على النحو الذى يُخفى أشكالاً عديدة من الخداع، وسأكتفى هنا بمثالين من مشروع الدستور يتعلق أولهما بأن الدستور يؤسس فعلاً لدولة ولاية الفقيه من خلال ثلاث مواد متناثرة حتى لا ينتبه الكثيرون إلى طبيعة الدولة التى يقيمها هذا الدستور. فهناك المادة الثانية من الدستور التى كانت موضع إجماع القوى السياسية وكانت كافية وحدها لطمأنة تيار الإسلام السياسى بالنص على أن (مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع)، ولكن ممثلى هذا التيار أصروا على إضافة مادة أخرى هى المادة الرابعة تخص الأزهر الشريف كهيئة إسلامية مستقلة وتضمَّن النص فقرة لا مبرر لها هى (ويُؤخذ رأى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف فى الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية)، وسوف تكون هذه الفقرة أساس منازعات عديدة حول موقع الشريعة الإسلامية من القوانين التى يصدرها البرلمان. وبذلك تقوم فى مصر صورة من ولاية الفقيه كما هو الحال فى إيران، حيث يتم العودة إلى رجال الدين لتحديد ما يجوز فى القوانين، ولم يكتف ممثلو تيار الإسلام السياسى بذلك، بل أصروا على إضافة مادة ثالثة برقم 219 لتحديد المقصود بمبادئ الشريعة الإسلامية، بحيث تشمل (أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبَرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة)، وبذلك لم تعد مبادئ الشريعة قاصرة فقط على المقاصد الكلية، كما فسرتها المحكمة الدستورية العليا، وهى العدل والحرية والمساواة.. إلخ، بل تشمل كل ما كُتب فى الشريعة، وفقدت المادة الثانية الغرض منها ولم تعد المسألة منحصرة فقط فى المبادئ ولم تعد المرجعية فى تفسير نصوص الدستور هى المحكمة الدستورية العليا، كما هو العُرف الدستورى فى العالم كله، بل أصبح رجال الدين هم الذين يحددون المقصود بمبادئ الشريعة، وهو شكل صريح لدولة ولاية الفقيه التى يرفضها الجميع، فى ظل نظام ديمقراطى دفع الشعب المصرى ثمناً غالياً من أجله. أما المثال الثانى فهو يدور حول الحقوق والحريات التى نص عليها مشروع الدستور فى صياغات يُعتبر معظمها مقبولاً من الشعب المصرى، سواء فى ما يتصل بحرية الاعتقاد وحرية التنظيم والتظاهر السلمى وغيرها، ولكن هذه المواد العديدة يتجاوز عددها خمسين مادة، تم تعطيلها بالمادة رقم (8) التى تنص على (وتمارس الحقوق والحريات بما لا يتعارض مع المقومات الواردة فى باب الدولة والمجتمع بهذا الدستور)، فإذا عرفنا أن هذه المقومات تشمل عبارات مطاطة وغامضة مثل تلك التى وردت فى المادة (11) التى تنص على (ترعى الدولة الأخلاق والآداب والنظام العام والمستوى الرفيع للتربية والقيم الدينية والوطنية)، لعرفنا أنه فى ظل هذه العبارات الغامضة يمكن تعطيل أى حق، ويمكن العدوان على أى حرية، ويمكن حرمان المواطن من التمتع بالحقوق والحريات التى نص عليها الدستور. وهكذا فإن تيار الإسلام السياسى لم يتورع عن فعل كل ما يستطيع من أجل تحقيق أهدافه فى إحكام السيطرة على الدولة وأجهزتها، وضمان إحاطة المواطنين بسياج من القيود التى تحول دون تمتعهم بحرياتهم وحقوقهم. وما بين محاولات صياغة الدستور على النحو الذى يمكنهم من ذلك والعدوان السافر الذى نظمته جماعة الإخوان المسلمين ضد المعتصمين السلميين أمام قصر الاتحادية، فإن مصر تعيش لحظات حاسمة سيكون لها تأثيرها الكبير على المستقبل.