الحمد لله.. أخيراً وبعد سنتين من التسويف ذهبت إلى طبيب الأسنان.. ويا لهول ما أرانى الطبيب على شاشة عرض الصور.. ضرسٌ كان محشواً، وتأخرتُ عن تركيب تاج الحشوة له، فأضحى منخوراً مسوساً، بَشِعاً مُروعاً، مُقززاً مُنفراً.. نبهنى ألم العلاج إلى أن للإهمال ثمناً ومغرماً.. وأشفقت على حالة الضرس وقد افترسه التسوس، فشوّه منظره بعد أن كان سوياً.. قد سخَّره الله لخدمتى فأخلص وكافح لما يقرب من 40 سنة ليلاً ونهاراً، دون شكوى أو اعتراض أو تردد.. فكان الإهمال فى تنظيفه والتسويف فى تطهيره سبباً فى تَلفِه بل وتحوّله إلى مصدر ألم وإزعاج.. سرحْتُ فى غمرة الألم متأمّلاً كيف أنّ الألم يأتى من إهمال ما استرعانا الله تعالى إياه. وكذلك نفوسنا.. نعم كذلك نفوسنا الأمارة بالسوء.. فقد تجتهد النفس فى خدمة أهدافنا السامية لسنوات دون كلل أو ملل أو شكوى.. لكن إهمالنا لتزكيتها وتطهيرها يجعلها تالفة بشعة كما بدا الضرس فى الصورة.. بل قد تصبح النفوس المهمَلة سبباً فى إلحاق الضرر والأذى بما كانت بالأمس تخدمه.. وبمن كانت تخدمه، تماماً كما يفعل الضرس بصاحبه إذا نخره التسوس، فكم يسبب له من الآلام والمتاعب.. كنت أنظر إلى الشاشة وأتساءل: هل يا ترى وصلت نفسك إلى هذا المستوى من التلف؟ هل أضحت بهذا القدر المُنفِّر من البشاعة؟ لِم لا وقد أكثرت من الاستمتاع بمضغ «حلويات» مدح المتابعين بشَرَه؟ لِم لا وقد أطلْت التلذُّذ بالتهام «سكاكر» ثناء المحبين وتصفيق المستمعين بنهَم؟ هل أهملتَ تنظيفها ب«سِوَاك» الانكسار والاعتراف حتى تراكمت عليها الأوساخ من مخلفات الشهرة والظهور، أم أنك أغفلت تعقيمها ب«معجون» التفكر فى عظيم ستر الله لعيوبك عن مادحيك وسَعة حلمه عن مخازيك؟ لعلها تستحيى من الله فترعوى عن غيّها وضلالها.. وهل وصل بك الإهمال لتطهير نفسك إلى حدٍ نخر فيها بسببه «سوس» حب الظهور ومرض ال«أنا»؟ هل أضحت نفسك كريهة مؤذية بشعة كالحال الذى صار إليه هذا الضرس؟ ولكن انتبه.. لا تستعجل، وحاذر من الإجابات المظلمة التى تأتى من استيلاء حالة النفى والإنكار أو التبرير. فلا تقل إنك روَّضتها بعمل الخير ونفع الناس.. لا تقل إنك جاهدتها سنوات طويلة لتخدم الدين ليل نهار.. لا تقل إن المشاقّ التى تحمّلتها، والتضحيات التى بذلتها، والأذى الذى أصابك فى سبيل الله، والصبر والاحتساب اللذين قابلت بهما كل الابتلاءات فى رحلة الدعوة كانت كافية فى تطهير هذه النفس المذنبة الطالحة، وتخليصها مما علق بها من أوساخ ادّعاء الاستحقاق.. لا تقل ذلك.. فهذا الضرس، أيضاً لم يتوقف يوماً عن خدمة بقية الأعضاء، ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاءً، ولم يتبرّم يوماً من برودة ما يرد عليه أو من حرارته.. وقد أمضى عقوداً فى طحن الطعام وتهشيمه وتجهيزه لإرساله بعد ذلك إلى المعدة.. بل إن هذا المسكين لم يقتصر فى الخدمة على مجرد «المضغ» الذى هو مجال اختصاصه الذى خلقه الله من أجله فحسب، فقد كان يسارع إلى امتثال الأوامر حتى فى غير مجال وظيفته واختصاصه.. فإذا طُلب منه تهشيم شىء أو فتح غطاء لم يكن يستكبر عن الخدمة، وكان يقتحم المغامرات مسارعاً دون تردد أو التفات لما قد تسببه له هذه المغامرات من أضرار.. ومع ذلك لم يُغنِه هذا كله عن الحاجة إلى العلاج والتنقية والتزكية.. فكان إهمال تنظيفه سبباً فى تلوثه، وتراكم الأوساخ عليه.. والأعجب من ذلك أن كل ما قدّمه من خدمات لم تكن لتشفع له فتحميه من نخر التسوس له.. أوّاه.. وآه.. فلقد كان تألم نفسى من التفكير فى هذه الحقيقة الصادمة أشدَّ من ألم عصب ضرس العقل وهو يستقبل الحفارات الطبية التى تعالجه وتنظفه من التسوُّس.. وأخذت التساؤلات تعصف بى والقلب يرتجف من هذه الحقيقة المرة.. هل ذهب جهدك أدراج الرياح؟ هل أُحبطت أعمالك وأنت تتيهُ على الآخرين بسجل نجاحاتك المتوهمة؟ هل ستأتى ساعة الوفاة وأنت على هذا الحال من الإفلاس؟ وهل لديك ما تقابل به ربك ساعة الوقوف بين يديه يوم العرض عليه وأنت وحيد فريد عارٍ كيوم ولدتك أُمك؟ فكم مرة استترت فيها من أعين الناس وأنت غافل عن نظر الله إليك؟ بِمَ ستجيب ربك الذى أقسم لك فى كتابه بأن الفلاح لمن زكاها وأن الخيبة لمن دسّاها؟ هل تستطيع التظاهر فى حضرته بما اعتدت أن تتظاهر به أمام الناس من دعاوى الورع والصلاح، أم أن لسانك المُتفصِّح سيسعفك بما تنجو به من عتابه تعالى وسُخطه؟ هيهات، فقد قال تعالى: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ». وما زلت مأخوذاً بصدمة الحقيقة، ذاهلاً بما انكشف منها عما سواها، متجرعاً مراراتها.. حتى بدأت نغمة صوت الدكتور عمار الشجية تلامس شغاف القلب وهو يعمل محاولاً إصلاح ما أفسدتُ أنا، لا الدهر، ويترنم قائلاً: واسأل نجوم الليل هل زار الكرى جفنى وكيف يزور من لم يعرفِ؟ يا مانعى طيب المنام ومانحى ثوب السقام به ووجدى المتلفِ لو أن روحى فى يدى ووهبتها لمبشرى بقدومكم لم أنصفِ الله الله.. الله الله.. كلما ناديت يا هو.. قال: يا عبدى أنا الله.. فانهمرت دموع حرِّى، والعجيب أن حرارتها كانت برداً وسلاماً على قلبٍ هاله المعنى، وامتزج فيه الألم بالرجاء والخشية بالحياء فى رحاب المحبة، فأخذت أستحضر أبياتاً أخرى من فائية ابن الفارض: قلبى يحدثنى بأنك مُتلِفى روحى فداك عرفت أم لم تعرفِ عطفاً على رمقى وما أبقيت لى من جسمى المضنى وقلبى المُدْنَفِ اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكّاها أنت وليها ومولاها.. يا كريم.