قرية "العمار، فخر محافظة القليوبية، المصدر الأول والأكبر لزراعة المشمش في مصر، حتى أطلق بسببها المقولة التاريخية الخالدة "عمار يا مشمش"، في إشارة لفضل تلك القرية التي قد ذاع صيتها علي مدار سنين طوال.اشتهر الجيل الجديد من سكان القرية بسفرهم إلى إيطاليا، وصاروا يرسلون أموالهم إلى عائلاتهم المختلفة، ما زاد من مصادر دخل القرية، استمع سكانها لحديث الرئيس السيسي عقب فوزه بالرئاسة، الذي طالب فيه المجتمع بالمشاركة في خدمات إصلاحية، فقرروا أن يشاركوه الحلم، غير أن الروتين قد صدم أحلامهم طوال عامين. "أوعى يا بني تكون من الناس اللي بييجوا يتفرجوا علينا وبعدين يمشوا، إحنا تعبنا والنعمة".. بهذه الكلمات البسيطة بدأت الحاجة هانم بدوي صاحبة الستين عاما، استقبلت "الوطن"، وتلوم على من سمع منها القصة مرارا دون أن يتحرك أحد، "اللي حصل إننا بغسل من 9 سنين، قالوللي عندك حاجة في الدم ولا أعرف إنها كلية ولا حاجة، لما حللت قالولي عندك حالة كراير في الدم، بعد ما غلبنا سنين، حجزوني وقالوللي دي حالة فشل كلوي، لازم تغسلي". عجزت الحاجة نبوية عن متابعة شؤون بيتها منذ سنوات، حيث إنها تستهلك ما يقرب الخمس ساعات يوميا، لمدة ثلاثة أيام أسبوعيا، للتوجه من قريتها "العمار الكبرى" إلى مستشفى بنها العام .. "المستشفى كانت كويسة، بس العالم ياما فيها، وبعدين دلوقت بقى فيه 3 شيفتات على طقم التمريض، وأوقات بيصعبوا عليا والله، مع إنهم أوقات بيحطوني على الجهاز 3 ساعات بس، والمفروض آخد 4 ساعات، أقول للميس طيب اديني الساعة الرابعة، تقولي خلاص بقي يا حاجة عاوزين نروح نشوف بيوتنا وعيالنا".. هكذا وصفت نبوية حالها وهي تحبس دمعة تحجرت. تجولت "الوطن" داخل القرية، واكتشفت أن هناك ما يقرب من ستين حالة تعاني من الفشل الكلوي وتحتاج إلى عملية غسيل كلى 3 مرات أسبوعيا.. "أنا بغسل في أربع ساعات والخامسة بقى على ما ألاقي مواصلات، أستنظر ماكنة أستنظر عربية أو توك توك".. تكمل الحاجة هانم عبد العليم، ذات الخمسة وأربعين عاما، وأم لأربعة بنات، وصف الرحلة الشاقة التي تقطعها: "لما أسيب بيتي وولادي وحاجتي وأجي، طبعا بيصعب عليا نفسي، وأقول يعني لو في مستشفى كويسة عندي مش كان زمنهم معايا"، وتضيف الحاجة هانم أن المستشفى الموجودة داخل القرية لم تعمل سوى لخدمة تنظيم الأسرة فقط. تحتاج الأسر أن تقتطع من قوت يومها لكي تؤجر سيارات خاصة لنقل الحالات التي تغسل ثلاث مرات أسبوعيا، حيث من المعلوم أن المريض بعد هذه الجلسة تنهك قواه بطريقة كبيرة "موضوع الغسيل ده بيبقى تعب عليا في المرواح والمجي، ولو تعبت هنا بالليل مابلقيش حد يلحقني، ولو روحت الوحدة مافيهاش حد خالص".. لم تقف مأساة صابرين عزت، إحدى مريضات الفشل الكلوي صاحبة الخمسة وثلاثين عاما، عند هذا الحد، فقد حرمت من الزواج طوال عمرها بسبب هذا المرض، الذي أصيبت به وهي صغيرة.. "العربية بتاخد مننا مبلغ تلات أيام في الأسبوع 30 جنيه رايح و30 جنيه جاي، شوف بقى يقطعوا كام في الشهر".. ولا تجد صابرين حلا سوى أن تقترض أموالا من الأقارب لكي تستطيع أن تواجه ظروف الحياة الصعبة حاملة معها عبء مرضها أيضا. انتقلت "الوطن" إلى مستشفى "العمار الكبرى" والذي يتكون من مبنى خارجي لعيادة تنظيم الأسرة، ومبنى ملحق من ثلاثة طوابق، الأول يعمل لعيادة الباطنة والأسنان فقط، أما الطابقان الأخران فهما مهجوران تماما، يسكنهما "الخفاش" وكثير من أعشاش العصافير، فيما تزين خيوط العنكبوت المشهد البائس للمبنى الذي تكلف تشييده الملايين، ويكمل الديكور الأسود معدات لم تستخدم منذ افتتاح المستشفى من 7 سنوات. "المستشفى بعد ما طوروه، خدوا المعدات وكل حاجة فيه، المستشفى هنا بيخدم 60 ألف مواطن غير البلاد اللي جانبنا، روحنا وجمعنا تبرعات علشان نجيب أجهزة الغسيل الخاصة بالفشل الكلوي، وكمان عاوزين نجيب حضانات".. يشرح الحاج عبد المقصود نور الدين أحد أبناء القرية بداية المأساة، ويضيف: "لاقينا في مبنين مقفولين من سنين ما تفتحوش، قولنا نستغل المساحة دي ولو بالمجهود الذاتي لأن في ناس كتير من هنا بيغسلوا في أماكن كتير زي طوخ وبنها وأجهور". قام الحاج عبد المقصود ومعه العديد من رجال القرية بجمع تبرعات لإنشاء وحدة غسيل كلوي خاصة بالقرية على نفقتهم الخاصة "زي الريس ما قال، نبني بلدنا ونعلي بناها، الناس كتر خيرهم قطعوا من قوتهم وقوت عيالهم علشان يدفعوا تمن المكان والمستشفى بالكامل، وقدرنا نجيب جهاز اتكلف 85 ألف جنيه، وفي جهازين تانيين محجوزين في ألمانيا ومستنيين بس إننا نفعل الحجز وندفع باقي الفلوس".. بحسرة في عينيه وانكسار بصوته يصف الحاج كيف راح مجهود القرية أدراج الرياح، عقب استيراد الجهاز منذ عامين "وزارة الصحة ترفض أنها تستلم مننا الجهاز، مع إننا جبنا أعلى نوع موجود في السوق، ويتم استخدامه في مستشفيات بنها وعين شمس وهو "ferzinas 2004 4008 s"، حتى لا نسمع من الحكومة أنه مخالف". توجهت "الوطن" إلى مديرية الصحة بمحافظة القليوبية، للتواصل مع المسؤولين ومعرفة سر عدم قبول الجهاز ليدخل إلى الخدمة العامة.. "عندي 186 ماكينة غسيل كلوي، اشترينا 30 يبقى حوالي 216 جهاز غسيل جاهزة للتشغيل، وكل الناس اللي بيغسلوا في مستشفياتي 750 مريض، والقوة الماكينية اللي عندي تغسل ل 1500 مريض، يعني مش محتاج أي جهاز جديد".. بهذه الكلمات بدأ دكتور محمد لاشين وكيل وزارة الصحة بالقليوبية شرح أسباب رفض تبرع القرية، وأضاف: "لا يوجد لدي ما يكفي من الأطباء لكي أعينهم في تلك المراكز الصغيرة نسبيا، لو حابين يتبرعوا بيه لأي مستشفى كبير ماشي، غير كده لأ".وبسؤاله عن المستشفى غير المستغل في قرية "العمار" تفاجأ قليلا، قبل أن يجيب على "الوطن": "أنا في رأيي يكون في مبادرة اجتماعية لكيفية حسن استغلال الأماكن غير المستغلة بشكل جيد". عدنا مرة أخرى إلى القرية لنبلغهم بما وصلنا إليه مع المسؤولين، ونطرح عليهم ما قيل لنا لعلهم يتبرعوا بالجهاز "أنا بقله مابكلفكش حاجة، اعملها في سنة اعملها في سنتين، قولي هتتكلف كام وأنا وأهل البلد معاك لغاية ما أسلمك المستشفى على المفتاح مش ناقصة غير الدكاترة تشتغل فيها وبس".. هكذا جاء تعليق الحاج عبد العليم الجزار، أحد القائمين على جمع التبرعات، على حديث المسؤول. يتساءل الحاج عبد المقصود "إنت ليه مش عاوز تعمر معايا؟ المكان موجود والمريض موجود والجهاز موجود، يبقى ناقص إيه، مافيش غير الدكتور هو اللي الدولة هتتحمله معانا، نجيبه إحنا يعني؟"، وأضاف الحاج مبديا حيرة غريبة من موقف الدولة السلبي "إحنا بقالنا 3 سنين في الموضوع ده، والجهاز بقاله سنتين مرمي في بيت واحد جارنا، في قانون في الكلى بيقول إن لو في 60 مريض يتحتم على الدولة إنها توفر لهم مكان للغسل الكلوي". رأينا الحالات التي التقيناها في اليوم السابق، لننقل لهم وجهة نظر المسؤول، بأن وحدات غسيل الكلى تحتاج إلى بنك دم، وغرفة إفاقة مخصصة لهذه الحالات، فقابلتنا الآنسة صابرين برد عنيف "بلدنا اتبرعت، واستنينا إن الجهاز يشتغل، وكل يومين نسمع إن المكان هيشتغل، لكن ولا في أي حاجة جت، ولو المسؤولين عاوزين فلوس مننا تاني يقولوا، هنجمع لهم بدل البهدلة اللي الواحد شايفها، هنا في الوحدة بتاعتنا هنا ماتلاقيش دكتور، أكنها مش وحدة خالص، وأكننا مش موجودين على وش الدنيا، ملعون أبوها الحياة يا شيخ". لم يختلف موقف الحاجة هانم عبد العليم كثيرا، وقالت بمزيد من الأسى "نفسي يكون عندنا مستشفى ينقذ أي مريض، يكون فيها بس أي إسعافات أولية تنقذ أي مريض، لا اللي معاه بيقدر ولا اللي ماعهوش بيعرف، اللي ماعهوش بيضطر يوفر من قوته وياخد مواصلات أو عربية". أما الحاجة نبوية بدوي، فاستقبلتنا بنظرة ساخرة ووجه مطمئن "مش قولتلك يا بني مش هيعملونا حاجة، والله فرحنا لما قالوا الوحدة هتشتغل، بقيت أبص للناس وأقولهم خلاص مش هانجيلكم تاني، إنتوا اللي هتيجوا بلدنا علشان تتعالجوا، يا الله.. عاملين زي السمك.. الكبير بياكل الصغير، مافيش رحمة".. سكتت الحاجة نبوية للحظات ثم حكت أصعب موقف قد مر عليها منذ إصابتها بالفشل الكلوي "ولا عارفة أروح فرح ولا أروح ميت، ولا عارفة أشوف أمي، ليلة فرح ابني كنت بتممرغ في الأرض والناس من حواليا نفسهم ينجدوني من كتر المغص الكلوي ما كان بيقطع جتتي". حملت "الوطن" هذه الكلمات الأخيرة، وتركت القرية بعد أن قضت داخلها يومين تبحث عن إجابة منطقية لعدم مشاركة الحكومة جهود مواطنين، يحلمون بإنشاء وحدات غسيل للكلى بها ما يقرب من ستة أجهزة، إضافة إلى حضانات أطفال وعربة إسعاف ومستشفى متطور ينافس المستشفيات الجامعية، وقد تبرعوا من أجل تحقيق حلمهم، ولكن هذا الحلم قد تبخر الآن، ولم يتبق منه سوى جهاز سليم للغسيل الكلوي لم يستخدم منذ عامين، وجهازان آخران تم حجزهما بألمانيا ولم يتم التعاقد النهائي حتى الآن لاستيرادهما، وقليل من الأموال التي قد جمعت في السابق، وحسرة عظيمة تعلو الوجوه حين تتحدث معهم عن حلم دمره عجز الحكومة وروتين الأداء الذي يتوارثه الأجيال.