يجلس محمود رفعت على «الدكة» التى تستقر أمام منزله، يتكئ ساعة العصارى، يشرب الشاى الصعيدى الذى يعدل له رأسه بعد ساعات من العمل، تهبط سارة من الأتوبيس، تركض ناحية والدها، يقبّلها فى جبينها، يسألها عما فعلت فى المدرسة، تخرج له ورقة الامتحان، التى تحتاج إلى إمضائه للتأكيد على معرفته بما آلت إليه الأمور فى المعهد الأزهرى الذى يأخذ قرابة ألف جنيه، من أجل زيادة الاعتناء بها وبرفيقاتها، يشاهد كلمة كتبتها مدرسة اللغة الإنجليزية على الورقة: «نرجو الاعتناء بالحروف ال capital»، لا يستوعب معنى الكلمة، يقول لبنته «قصدها إيه يعنى المدرسة»، ترد عليه سارة: «قصدها الحروف فى أول الكلام الإنجليزى يابا»، يضعها على حجره، يمسد شعرها، يخبرها أنه أدخلها معهدا أزهريا خاصا «عشان عاوزك تطلعى أحسن منى يا سارة»، تنظر إليه الابنة فى دلال وتقبّله، وتجرى ناحية والدتها، تخبرها بدرجاتها فى الامتحان. يمر يوم الجمعة، ويأتى يوم السبت، يتذكر الأب محمود باكياً، كيف لم يقابل ابنته كالمعتاد فى الصباح قبل أن يحملها الأتوبيس لمعهد نور الأزهر، الذى أشاع فى داخله ظلمة أبدية، يلاطف أخيها الصغير رفعت، محاولاً أن يتصبر به على مصابه الجلل، يندهش من إمكانية أن تكون سعة الحافلة لا تزيد عن 40 فردا، ورغم ذلك كان بداخله 70 طفلاً، ممن أسماهم بالزهور التى لم يحن أوان شم رائحتهم بعد «بس حنقول إيه، هى عزبة وبتتقسم». يقطع أحد أبناء عمومة «محمود» -الذين يجلسون حوله لمواساته- حديثه، صارخا: «لازم يبصوا للصعيد شوية، مش بيعملوا أى حاجة خالص لينا، وكأننا فى دولة تانية»، الحزن والوجوم الذى يسيطر على جيران محمود، لا يقل عن حزن والد «سارة»، التى تركت فراغا لا يمكن أن يملأه أى شخص، كما أن الحادث الذى أودى بحياة سارة لا يمكن اختصاره فى إهمال عامل المزلقان فقط: «منقولش الإهمال من عامل المزلقان، الإهمال من أكبر مسئول وهو الوزير، لازم يتحاسب»، إقالة وزير النقل لن تشفى غليل أسر الضحايا، وهو التصرف المعتاد الذى تتخذه الحكومة: «يقيلوا الوزير ولا لأ، ده ميهمنيش، لازم أشوفه قدام عينيه فى القفص». انتقادات حادة يوجهها محمود للحكومة الجديدة، التى يرى أنها حتى الآن لم يظهر منها أى ضوء، حتى ولو كان خافتا: «حادثة الفيوم كانت الأسبوع اللى فات، ومات فيها ناس، إيه الجديد اللى اتغير؟». كلما ترك «رفعت» ولده الصغير يديه التى يمسكها بقوة، خشى أن يحدث له مكروه، كما حدث لأخته، التى ما لبثت أن تحولت لأشلاء: «إحنا غلطانين إننا بنعلم ولادنا، لو الجهل هيخليهم يعيشوا يبقى أفضل لنا»، يحاول محمود، بعد كل جملة قصيرة، أن يتمالك أعصابه، إلا أنه لا يستطع وينخرط فى البكاء، ويردد كلمات غير مفهومة. يترك أحد أقارب «سارة» مكانه فى العزاء، بجوار والدها، لينهمر فى البكاء كلما تذكر أشلاء الأطفال التى اختلطت بقضبان الموت: «واحدة عرفت ابنها من رجليه المتسخة بالطين»، التى رفض أن يغسلها خوفا من عدم اللحاق بأتوبيس المدرسة، حيث كان لا يعلم أنه أتوبيس «الموت»، الذى سيوصله لقبره. الكارثة التى أفجعت عشرات الأسر، بالرغم من قوتها وتأثيرها، فإنها لم تعط أى أمل فى تطور الغد: «زى كل الحوادث اللى حصلت قبل كده، حريق الصعيد والعياط، هل فى حاجة تغيرت؟.. يا ريت ترد الحكومة علينا». يهاجم المسئولين فى البلد، يتساءل عن كيفية احتلال وزير رى لمنصب رئيس الوزراء، ووجود دكتور كمحافظ لأسيوط، وقبوع بعض من حاملى الدبلوم فى مناصب قيادية بالمراكز والقرى، يقول إن المحاسبة لا بد أن تبدأ من الكبار وليس من الصغار «فى مصر اضرب الكبير، الصغير لازم يخاف، لكن لو الكبير سلم، الصغير حيعمل ما بدا له»، لا يريد أن يتذكر كيف كانت حالة ابنته حين حملها لتدفن، لا يرغب فى استعادة مشهد لن يمحى من ذاكرة أب، فقد أعز ما يملك، يهاجم المتشدقين بأن الآلاف من الجنيهات سوف تمنح لأهالى الضحايا، يبكى ويضحك: «هو لو أعطونى مليون جنيه، هترجع لى سارة تضحك تانى؟». أخبار متعلقة: والد الطفلة سارة باكياً: إزاى وزير رى يبقى رئيس وزرا؟