«الدرس انتهى لموا الكراريس.. بالدم اللى على ورقهم سال».. انتهى بالأمس درس أكثر من 50 تلميذاً فى 3 قرى بأسيوط تتراوح أعمارهم بين 5 سنوات و11 سنة.. قطر سكة حديد وأتوبيس مدرسة وإهمال.. كتبوا السطر الأخير فى حياتهم.. سطر بلون الدم اتكتب فوق قضبان السكة الحديد.. وقت ما كان وزير النقل «نايم».. هناك فى قرية المندرة.. كفوف صغيرة مقطوعة.. وأشلاء ودم.. انتشروا بطول 600 إلى 1000 متر.. وهناك قلوب أمهات بتصرخ.. وصور ولادهم بتملا عينيهم.. قبل دقائق كانوا بيودعوهم على باب الأتوبيس.. وبعد دقائق.. الأتوبيس وولادهم كانوا تحت القَطر.. هناك فى أسيوط.. ناس غلابة.. لمت «لحم ولادها» فى أكياس.. ولمت كراريس وكتب ملطخة ب«بقع دم».. كراسات بتحمل الاسم.. والفصل.. الخط عادى.. ممكن يكون «شخابيط».. لكن بيسأل مين.. الدم فى رقبة مين.. عامل مزلقان ولا سواق.. ولا رئيس سكة حديد.. ولا وزير.. ولا حتى رئيس.. أسئلة لن تجد إجابة لها.. علامات استفهام..لن تجمع أشلاء الضحايا وكتبهم وتعيدهم إلى «سيرتهم» الأولى.. يدخلون فى نهاية اليوم.. وكل تلميذ يترمى فى حضن أمه ويقول: «أنا أهو جيت». المشهد الأول الساعة تقترب من الخامسة صباحاً.. لسعات البرد الخفيفة تمنع أطفال قرى منفلوط من الاستيقاظ.. دقائق معدودة ويعلو صوت الأم: «خلاص.. كله يصحى.. علشان نلبس ونفطر.. ونستنى الأتوبيس».. المشاهد لا تتغير فى غالبية المنازل. المشهد الثانى قبلة على الجبين من كل أم لطفلها.. تصحبها كلمات «خلى بالك.. بلاش تتخانق مع زمايلك.. إوعى هدومك تبوظ.. ما تبصش من شباك الأتوبيس».. ويرد الأطفال على الوصايا: «حاضر.. حاضر.. حاضر» المشهد الثالث سائق مدرسة «دار حراء».. يستقل أتوبيسه.. يرحب بالمشرفة.. ويسلم على التلاميذ.. الرحلة ليست سهلة..الأتوبيس يتحرك بين ثلاث قرى.. وكل تلميذ يلتزم مقعده.. وتعلو صرخات المشرفة: «بلاش دوشة».. ومحدش يضرب زميله. المشهد الرابع القطار رقم 165 القادم من أسيوط فى اتجاه القاهرة.. ينطلق بأقصى سرعته.. وفى مزلقان قرية المندرة.. التابع لمنفلوط.. تجد سيد عبده رضوان عامل المزلقان.. نائماً فى قلب كابينة مخصصة له.. وضع غطاء على رأسه وعينيه. المشهد الخامس القطار يقترب من محطة المندرة.. والأتوبيس يقترب من المزلقان.. سرعة القطار كبيرة.. وسائق الأتوبيس يهدئ من سرعته ليتجاوز المزلقان المفتوح أمامه.. حتى لا يشعر الأطفال ب«رجرجة» الأتوبيس. المشهد السادس عجلات الأتوبيس تلمس شريط السكة الحديد.. سائق القطار على بعد 50 متراً.. يصرخ.. ولا مفر من الاصطدام.. يزيح أمامه الأتوبيس يحوله إلى كتلة من الصفيح. المشهد السابع صرخات التلاميذ مكتومة.. بل تنتهى فجأة.. الكثير منهم انتهت حياتهم فوراً.. أشلاؤهم انتشرت بمسافة تجازوت كيلومتراً. المشهد الثامن هنا تجد كتاب الخط العربى.. وصاحبه التلميذ فارس أشرف.. الاسم مكتوب بجوار كلمة جمهورية مصر العربية.. بجواره تجد عشرات الكراسات.. ملطخة بالدماء.. منتشرة بطول المسافة.. القطار يتوقف على بعد كيلو ونصف من مسرح الجريمة. المشهد التاسع يتجمع الأهالى على صوت الاصطدام.. ينتقلون إلى المكان.. يشاهدون الدماء والأشلاء والكتب.. سيارات الإسعاف تحضر بعد 12 دقيقة من وقوع الجريمة.. تنطلق إلى مستشفى منفلوط الذى يبعد 3 كيلومترات.. وسيارات أخرى تنتقل إلى مستشفى أسيوط الجامعى. المشهد العاشر الخبر يصل بعد 20 دقيقة إلى الأسر.. لا يصدقون.. يأتيهم فى البداية اتصال: «حادثة بسيطة على السكة الحديد».. أو اتصال آخر: «بيقولوا أن فيه كام عيل ماتوا.. أتوبيسهم داس عليه القطر».. الصرخات فى منازل 3 قرى بأسيوط.. المشهد الحادى عشر البعض يهرول إلى مسرح الدماء.. يبحث بين الجثامين والأشلاء.. يجد كتاباً لابنه.. أو كارنيه مدرسته.. لا يتعرف على الجثمان.. عجلات القطار أنهت المعالم كاملة.. حولت الجميع إلى قطع صغيرة. المشهد الثانى عشر الصرخات تجدها فى مستشفى أسيوط الجامعى وقبلها مستشفى منفلوط المركزى.. صرخات بعض المصابين.. الذين تكفل لهم إصابتهم بأن يصرخوا.. بينما أكثر من 10 مصابين فى حالات فقد وعى.. ونزيف مستمر. المشهد الثالث عشر بقايا الأتوبيس.. مقاعد وإطارات تمتزج بالدماء وبالكتب المدرسية.. بقايا التلاميذ.. ملابس.. كارنيهات.. كشاكيل.. تجدها مبعثرة على شريط السكة الحديدة.. مبعثرة مثل بعثرة أشلاء أصحابها تماماً.. صامتة.. رغم صرخات الأمهات وصدمتهم وقسوة الخبر. المشهد الرابع عشر قيادات أمنية وتنفيذية تنتقل.. نيابة تعاين.. قرارات تصدر.. وإقالات تتم.. وقرارات من نيابة عامة وتصريحات من رئيس.. وتويتات من جماعة.. كلها جميعاً لا تساوى صرخة تلميذ وهو يستقبل الموت.. جميعها لا تساوى «قلق» أم.. كاملة لا تساوى ألم أم توجهت إلى شريط السكة الحديث تبحث عن صغيرها.. لا تجده.. تبحث عن أشلائه.. لا تتعرف عليه.. تجد فقط اسمه.. اسمه مكتوباً على ورقة ممزقة.. مزقتها عجلات القطار.