أبتعد اليوم عن شأننا الدستورى، ليس لأن أزمة الجمعية التأسيسية لوضع الدستور تعمقت بوضوح مع انسحاب ممثلى الكنائس المصرية الثلاث، وأضحت الجمعية أقرب ما تكون لانهيار قد يفتح المجال السياسى فى مصر لتشكيل جمعية بديلة متوازنة، ومن ثم قادرة على وضع دستور يحمى حقوقنا وحرياتنا ويصنع نظاماً ديمقراطياً للحكم يضمن مدنية الدولة وعدالة المجتمع. بل لأن العدوان الإسرائيلى على غزة يضع مصر الرسمية وجميع الفرقاء السياسيين أمام تحديات وطنية لا يمكن تجاهلها ولا التنازع بشأنها. التحدى الوطنى الأول هو حماية الشعب الفلسطينى فى غزة من آلة الحرب الإسرائيلية، وعصمة دماء الفلسطينيين من جرائم حكومة نتنياهو اليمينية التى لم تعرف يوماً سوى لغة الحرب، ودوماً ما استباحت دماء الأبرياء، فى فلسطين ولبنان، مدفوعة باستعلاء المحتلين وحساباتها الانتخابية والسياسية الداخلية. لدينا الكثير من الأدوات الذاتية غير العسكرية التى نستطيع توظيفها للضغط على نتنياهو وباراك لوقف العدوان على غزة والحيلولة دون تكرار سيناريو حرب 2008 التى ارتكبت بها إسرائيل جرائم ضد الإنسانية. نستطيع، وبعد سحب السفير المصرى من تل أبيب، تجميد العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية مع إسرائيل ما لم تكف آلتها العسكرية عن غزة. نستطيع، فى خطوة تالية، قطع هذه العلاقات لرفع مستوى الضغط وإيصال رسالة واضحة لحكومة نتنياهو مفادها أن مصر لن تقف مكتوفة الأيدى أمام عدوانها وجرائمها. مصر هنا لا تنسحب من اتفاقية كامب ديفيد ولا تعلن وفاتها، بل تتحرك بفاعلية وبأدوات غير عسكرية متاحة لها لكى تفهم إسرائيل أن السلام معها كان منذ اللحظة الأولى وسيظل مشروطاً بالانسحاب من الأراضى العربية المحتلة وبالاعتراف بحق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته وبالكف عن ممارسة استعلاء المحتلين والاعتداء المتكرر على العرب. لدينا أيضاً دور إقليمى واجبنا تفعيله لوقف العدوان الإسرائيلى. تستطيع مصر بالتعاون مع بعض الدول العربية وتركيا الضغط على حكومة نتنياهو بالتهديد بتجميد أو قطع جماعى للعلاقات مع إسرائيل. نستطيع مع هذه الدول ككتلة إقليمية هامة ومؤثرة مطالبة الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى والصين وروسيا بالتدخل الجاد لكف آلة الحرب الإسرائيلية عن غزة. ربما لن نصل للكثير مع الولاياتالمتحدة، فغطاء الأخيرة الدبلوماسى والسياسى لإسرائيل قائم كالعادة، ولم يغير كون أوباما فى فترته الرئاسية الثانية من انحياز واشنطن لإسرائيل شيئاً. إلا أن الاتحاد الأوروبى والصين وروسيا، ولهم جميعاً مصالح اقتصادية وتجارية واسعة معنا، مرشحون للتأثر بضغط عربى - تركى حقيقى ولبعض دول الاتحاد الأوروبى سابقة (فى 2008) فى الضغط على إسرائيل وفرض عقوبات عليها إزاء عدوانها المتكرر على الشعب الفلسطينى. وبافتراض نجاح مصر بأدواتها الذاتية ومع كتلة إقليمية وضغط دولى، فى إيقاف آلة الحرب الإسرائيلية خلال الساعات القادمة، يتعين علينا فى خطوة موازية الحصول على ضمانات من حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى للامتناع عن التصعيد العسكرى والموافقة على هدنة مع إسرائيل، كتلك التى كانت سارية ولفترة بعد حرب 2008. التحدى الوطنى الثانى هو إنهاء الصراع الداخلى فى فلسطين بين السلطة فى الضفة الغربية، وحماس والفصائل المتحالفة معها فى غزة. فلم يرتب الصراع الفلسطينى - الفلسطينى إلا هواناً متزايداً لشعب محتل وأحكم انسداد أفق الحل السياسى أو خيار المقاومة الشعبية الناجحة، الموظفة لكافة أدوات العصيان المدنى ضد المحتل وليس مجرد إطلاق صواريخ ترد عليه إسرائيل بعدوان شامل، للتخلص من الاحتلال ووقف النشاط الاستيطانى وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. يستغل العدوان الإسرائيلى على غزة الصراع الداخلى فى فلسطين ويضرب طرفى الصراع بطرق مختلفة، السلطة فى الضفة بسحب شرعيتها وتفريغ حركتها باتجاه الأممالمتحدة من أجل مقعد دولة فلسطين من المضمون السياسى العالمى، وحماس فى غزة بجرائم ضد الفلسطينيين وتدمير البنية التحتية واستهداف قدرات حماس العسكرية. واجب مصر الرسمية والسياسية، بكافة أحزابها وقواها، العمل على إنهاء صراع السلطة وحماس وجمع الفصائل الفلسطينية على خيارات استراتيجية واضحة بها تزاوج للحل السياسى وللمقاومة الشعبية. التحدى الوطنى الثالث هو حماية أمننا القومى وحماية السيادة المصرية على سيناء وعدم السماح باستغلال الأرض المصرية فى سيناء فى أعمال عسكرية ضد إسرائيل والحيلولة دون انزلاق مصر إلى إجراءات أو مواجهات عسكرية. ضرورات الأمن القومى تقتضى إحكام السيطرة على سيناء بالاستمرار فى مواجهة الخلايا العنفية ومنعها من القيام بعمليات إرهابية جديدة أو استغلال الأراضى المصرية لإطلاق صواريخ باتجاه إسرائيل. ضرورات الأمن القومى تقتضى إحكام السيطرة الأمنية على الحدود المصرية مع غزة بإغلاق الأنفاق مع فتح المعابر لإغاثة الفلسطينيين معيشياً وطبياً وإنسانياً من خلال جهود المجتمع المدنى. ضرورات الأمن القومى تقتضى عدم التورط فى تصعيد عسكرى مع إسرائيل أو الابتعاد عن أدوات الضغط غير العسكرية. ضرورات الأمن القومى تقتضى إيصال رسالة واضحة لليمين الإسرائيلى ولمتطرفيه، وليس للفلسطينيين كما يدعى بعض محدودى الفهم فى «اليمين» المتطرف المصرى، بأن مشروع «ترانسفير» جديد بالتفكير ولو للحظة فى توطين فلسطينيىغزة فى سيناء هو عمل أخرق وأن مصر لن تسمح به أبداً ولا بالمساس بسيادتها على سيناء، وأن الشعب الفلسطينى الباحث عن حقه المشروع فى إقامة دولته على أرضه أبداً لن يقبل لا بترانسفير باتجاه مصر ولا بآخر باتجاه الأردن. عدم التفريط فى ضرورات الأمن القومى هذه لا يتناقض مع دورنا فى حماية غزة والدفاع عن الحقوق الفلسطينية بالأدوات الكثيرة غير العسكرية المتاحة لنا، بل يدعمه. وتمتنع هنا المزايدة على مصر الرسمية والسياسية بهدف توريطنا فى تصعيد أو صراع عسكرى هو ضد المصلحة المصرية والفلسطينية، أو لإغماض أعيننا عن إحكام السيطرة والسيادة على سيناء كى لا تتحول إلى منطقة فراغ تستوطنها خلايا عنفية تهدد باستمرار أمننا القومى. هذه هى تحدياتنا الوطنية الآن لإيقاف آلة الحرب الإسرائيلية وكف جرائمها ووحشيتها عن غزة. وواجبنا جميعاً هو تنحية الخلافات السياسية والحزبية الداخلية جانباً، والارتقاء لقدر المسئولية الملقاة علينا لحماية غزة والدفاع عن الحقوق الفلسطينية، وعدم التفريط فى ضرورات الأمن القومى المصرى.