فالمشهد المصرى أصبح يبعث على كثير من الأسى، فضلاً عما ينطوى عليه من مخاطر، وهذا الأسى وصل إلى قمته -أو إلى قاعه- بما شهدته شاشة «القاهرة والناس» قبل أيام فى المواجهة التى تمت بين الدكتور إسلام بحيرى وأبويحيى عضو «ائتلاف المسلمين الجدد»، وكأن هذا اللقاء التليفزيونى كان القطرة التى جعلت الكأس يفيض. حديث أبى يحيى عن الشريعة الإسلامية و«صحيح البخارى» والإجماع، وأشياء أخرى، يكشف عن السراديب المظلمة التى توشك مصر أن تدخلها بسبب ما يعتبره الإسلاميون -إخواناً وسلفيين- معركة مزدوجة حول هوية مصر ومرجعية الشريعة، وهى تبدو بوضوح معركة لا رجعة عنها فى تقدير كلا الطرفين.. وإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد ترددت كثيراً فى الكتابة حول هذا الموضوع آملاً أن يعكس سلوك الإسلاميين الممسكين بدفة القرار السياسى منذ انتخاب البرلمان السابق وعياً بالمغزى الصحيح للحظة الراهنة. لكن المسار يبدو «مُنزَلَقاً» تنحدر فيه مصر كلها. وعليه، فقد استشعرت ضرورة ألا يكون وقوفى تحت المظلة الإسلامية سبباً فى تغليب هذا الانتماء على مقتضيات ما ينبغى أن يكون. وفى حقيقة الأمر فإن الإسلاميين هم أجدر الناس بأن يخرجوا الآن عن صمتهم لإلجام هذا الجموح الإخوانى/ السلفى، وأن ينقذوا الإسلاميين من أنفسهم. وأعود هنا للتذكير مرة أخرة بعبارة ذكية للدكتور على السمان مفادها أن مفتاح الحل: «أن يُغضب كلٌ منَّا بعضاً من أهله». أول المشكلات فى المسار الذى تسير فيه مصر خلف القاطرة الإخوانية/السلفية أن الأكثر تشدداً فى التيارين يمسكون دفة القيادة، وهم فى التيار السلفى فى الواجهة، وفى الإخوان فى الكواليس. ولعل من المفيد أن أشير إلى نصيحة قدمها الرئيس السوفيتى يورى أندروبوف -وكان مديراً سابقاً للمخابرات السوفيتية (كى.جى.بى)- للقيادى الفلسطينى الراحل ياسر عرفات من أن عليه أن يحذر جداً من «الأكثر تشدداً»، وقد أضاف أنهم فى عدة تجارب مع خلايا شيوعية كانوا يرفعون سقف الخطاب ويدفعون الحركة لمعارك خاسرة، وهى نصيحة جديرة بالتأمل من واحد من ذئاب العمل المخابراتى الكبار. والذين يتصورون أن أى أغلبية يحصل عليها الإسلاميون فى استفتاء أو انتخابات -مهما كانت- هى تفويض بتطبيق الشريعة فورياً أو تدريجياً يكذبون على أنفسهم وعلى الناس، ف«لحظة التأسيس» الحقيقية لمصر ما بعد الثورة ليست فى الوقوف أمام صناديق الانتخابات بل فى كسر حاجز الخوف والوقوف أمام نظام مبارك، وهو شرف حرم الإخوان والسلفيون أنفسهم منه، وبالتالى فما حدث لم يكن «ثورة إسلامية» يملك صناعها الحق فى وصل ما انقطع من التاريخ السياسى للأمة بتطبيق الشريعة أو عودة الخلافة.. وأنا ممن يتمنون وصل هذا الذى انقطع، لكن التمنى شىء والواجب شىء آخر تماماً. وثانى المشكلات أن «الحركة السلفية»، أحد أهم فصائل الحركة الإسلامية، أصبحت هرماً مقلوباً تتحكم فيها جماهيرها على نحو غير مسبوق، وترتب على ذلك أن أصبح هناك عاملان يهددان مستقبل مصر تهديداً جسيماً وكلاهما فرع عن هذا الأصل. الأول خوف «قمة الهرم السلفى» من جماهيرهم بعد أن ربيت هذه الجماهير لسنوات طويلة على أن التشدد هو بالضرورة «بوصلة الحق»، وبالتالى أصبح على خطاب القيادة دائماً أن يحترم «الخطوط الحمراء» التى تفرضها القاعدة الشعبية للتيار، وقد لعبت الفضائيات دوراً كبيراً فى تكريس هذا الوضع الكارثى. وهذه السمة «الشعبوية» لم تتحكم فى مسار ظاهرة سياسية أو دعوية إلا ودمرتها. والداعون إلى الذهاب إلى «الحد الأقصى» يتزايدون بشكل ملحوظ مدفوعين إلى ذلك بالخوف من الاتهام بأنهم يعطون «الدنية فى دينهم». ووراء هذا العنوان ذى الأساس النفسى بناء ضخم من الأخطاء التى لم يعد أحد مستعداً لأن يعترف بها، بينها مفاهيم وأفكار وأحكام، وما يُفترَض أنه مبادئ ملزمة. وخلف القاطرة الإخوانية/السلفية تنزلق مصر بسرعة الصاروخ إلى الهاوية، ولذا فإن ثمة حاجة حقيقية لتنظيم «جمعة إنقاذ الإسلاميين»! وللحديث بقية