دخلت أحد المكاتب الحكومية تجرجر قدميها لإنهاء إجراءات لا تحترم آلام الناس وأحزانهم، ولا ارتداءهم السواد. فمن منا ليس له أصبع أو أكثر إن لم تكن كلتا يديه تحت ضرس الحكومة. يترامى إلى سمعها صوت متعجرف يصيح كديك غاضب متلفظاً بكلمات تخضع لقانون العقوبات وتنتمى لقاموس الفئات الدنيا من البشر.. يتوعد بالويل والثبور تلك الموظفة البسيطة التى تعدت سنوات كفاحها بالحياة فى مهنتها ومهانتها ضعف سنوات عمره الغرير. فهمت من بين الكلمات أن الموظفة (فى بادرة أسعدتها بشدة)رفضت أن تعطيه أولوية على من يسبقه فى (الدور) رغم مظهره الأنيق الذى يشى بنفوذ وسلطة.. حتى بعد أن أخرج لها البطاقة السحرية التى تفتح الأبواب المغلقة والممهورة باسم أحد المسئولين جداً عن جراح هذا الوطن وآلامه. ولأن هذا المكان الحكومى يجمع كل فئات المجتمع (فالموت لا يعترف بالعنصرية ولا يقبل واسطة) فقد كان أغلبية الموجودين من البسطاء والمعدمين (كنسبة وجودهم فى مجتمع ازدادت فيه الهوة بين أقلية شديدة الثراء وأغلبية شديدة الفقر). ظل ينظر إليها وإلى من حوله من أصحاب الجلاليب الفضفاضة الخاوية بازدراء وتأفف من يخشى أن يصاب بعدوى من فقرهم وقلة حيلتهم. وأمام إصرارها بدأ يهددها بنفوذ يعتقد أنه يعطيه شرعية اغتصاب وسرقة حق الغير حتى فى أبسط الأشياء الباقية له بل (كل اللى حيلته) فى هذه الحياة وهو وقته الذى يمثل وحده قياس عمره ليسلبه حتى حياته. واستسلاماً لفحيح شيطان أسلمه نفسه أوشكت يد الحماقة أن تمتد عليها بعد أن خذلها زملاؤها ولم يحاولوا إنقاذها ربما خوفاً وربما استسلاماً لذلك المرض الخبيث الذى نخر عظام الوطن وأفقده أجمل صفاته بعد أن عشنا تراث التغنى بالنخوة والشهامة سنين طويلة حتى أفقنا على الحقيقة المرة.. وأخيراً حضر السيد المدير على الضجة (وليته لم يحضر) فقد أظهر من الخنوع والتودد والاسترضاء ما ضيّع الباقى من هيبة الدولة.. وكان عتاب الأحباب (ليه حضرتك ما جتليش من الأول وأنا كنت خلصت لك الموضوع على ما تشرب كباية الشاى.. وتحياتى لفلان باشا وعلان بيه).. وتحياتنا نحن للعدالة الاجتماعية والمساواة المتشدق بهما فى كل المناسبات (وسلام مربع يا جدع). يلقى نظرة شماتة أخيرة على (الست الشقيانة) المدرجة فى بقايا كبرياء ذبيح. لتشق الزحام كلمات حاسمة نطقتها تلك الوافدة الحزينة دون إرادة منها: - أنا ما أسمحلكش بالإهانات دى كلها. ليلتفت إليها بعجرفة صائحاً: - وإنتى مالك أنتى؟ التقت عيناها بالعينين الذابلتين المتشبثتين ببقايا كرامة عصرتها لقمة العيش وحاجة العيال ورفيق عمر متخاذل: - مالى جداً لأنها.. أمى. انحشرت الكلمات فى حلقه، متشككاً أن تكون تلك الموظفة بسيطة المظهر أمّاً لتلك الفتاة التى تبدو من طبقة اجتماعية أخرى.. حتى نبرة صوتها غير مغلفة بتلك الرعشة التى تخنق غضب الغلابة لا إرادياً خوفاً من الاندهاس تحت أقدام الكبار. وقبل أن يفيق من المفاجأة داهمه وابل من الصواعق والسيول من ذلك النوع الذى يهين ولا يسب، يوبخ ولا يبتذل، يطعن ويروغ دون أن يترك أثراً يدينه أو يوقعه تحت طائلة القانون.. حتى ضاعت كل محاولاته لمضاهاتها سُدى.. وكيف له ذلك وهى التى اشتُهرت (بلماضتها منذ الصغر) والتى تطورت مع الزمن لتصبح حجة قوية وبديهة حاضرة.. ودائماً مدعمة بآيات قرآنية وأحاديث شريفة وأقوال مأثورة من التراث الفكرى الإنسانى كفيل بإخراس أى مكابر.. حتى أصبحت لسان حال كثير من التجمعات التى تنتمى إليها منذ أيام المدرسة واتحاداتها الطلابية الساذجة.. وأحلامها الغريرة... وهكذا اعتدلت كفة الميزان وبدأت الأصوات الحبيسة تتلمس طريقها للخروج من الحناجر المكبوتة، ليتحول الموقف إلى قضية رأى عام.. وأمام القوة الحقيقية الكامنة فى عيون الضعفاء، شاهد عيان انكسار وطن هان بدأت لغة الشاب تتحول إلى المسكنة والمداهنة بعد أن أدرك أن مقياس القوة قد تغير.. متعثرة بدأت كلمات الاعتذار رحلتها إلى شفتيه.. ليس اعترافاً بخطأ واضح.. أو رجوعاً لحق ساطع ولكن خوفاً من تدثر المروءة بدفء الجماعة. رحل وفى عينيه بقايا عجرفة منزوية خلف أستار الهزيمة بعد أن أعلنت الموظفة (الغلبانة) أنها كعادتها.. وكعادتنا كلنا.. متنازلة عن حقها. التفتت إلى منقذتها، لتوفر عليها الفتاة كلمات كثيرة قرأتها فى عينيها: - إنتى فعلاً شبه أمى. أجابتها بتلقائية دون أن تنتبه لردائها الأسود ومسحة الحزن فى عينيها: - سلميلى عليها واشكريها على حسن تربيتها. - أمى ماتت. لتجد نفسها فى لحظة وقد فاضت عيونها بدموع لم تستطع منعها أكثر مرتمية فى حضن تلك التى لا تعرف حتى اسمها لتتشابك فى عنقيهما سلسلتان لا تميز لأى منهما إحداهما، مزينتين بآية الكرسى وقلادة جميلة رسمت عليها صورة السيدة العذراء.