"النهضة الصناعية"، شعار رفعه حكام مصريون رأوا أن رقي أمتهم وازدهار اقتصاد بلادهم لن يتأتى إلا عن هذا الطريق وحده، بدأها محمد علي في أوائل القرن التاسع عشر حينما أفرط في إنشاء مصانع الغزل والنسيج وتطوير صناعة الكتان والسكر، فضلًا عن المصانع الحربية والبحرية التي تعد من أعظم المنشآت الصناعية في ذلك العصر، ثم عاد الزعيم جمال عبدالناصر ليحيي أمل التنمية الصناعية من جديد في عقد الستينيات من القرن الماضي عبر بناء مشروعات بناء مشروعات الصناعات الثقيلة كالحديد والصلب ومصانع إطارات السيارات وصناعة الغزل والنسيج، قبل أن ينقلب الأمر رأسًا على عقب في أواخر هذا القرن لتبقى المصانع ضحية دائمة للإغلاق، ويصير عمالهم ما بين بحث عن عمل جديد أو مطالبات مريرة بحقوق مهدرة، دون أن تشفع لهم ثورتين قامتا من أجل كرامتهم. "متقولش عيد عمال قول عيد فقر أو تشريد، ممكن يبقا عيد أي حاجة غير العمال"، بقلق بالغ تحدث سعيد عوض، أمين عام النقابة العامة لشركة الزيوت المتكاملة بالسويس، عن مأساة 480 عاملًا مهددين بالتشرد بعد أن تقدم صاحب مصنع الزيوت المتكاملة بطلب لمديرية القوى العاملة بالسويس برغبته في إغلاق المصنع، إلا أن القوى العاملة رفضت طلبه، ليتقدم بطلب آخر في أول الشهر الحالي تم رفضه أيضًا. إصرار صاحب المصنع على إغلاقه يرجع سببه إلى حريق نشب بأحد أقسام المصنع في أكتوبر الماضي، "الحريق ده ما أثرش على المصنع ولا العمال وفضلنا نشتغل بكامل طاقتنا، لكن صاحب المصنع قرر يعجزنا وسحب كل كميات الزيوت من المصنع"، فتكلفة الإصلاحات التي يتطلبها المصنع بعد الحريق لا تتعدى 50 مليون جنيه، بحسب "عوض"، لكنه يرى أن "صاحب المصنع عنده سيولة مالية كافية لتصليح المصنع وإنقاذنا، بدليل إنه استورد زيوت ب685 مليون جنيه وقرر يعبي معظمهم برا المصنع، ومفكرش إن أرزاقنا ممكن تتقطع لو المصنع ده اتقفل". العامل الكادح يستقبل "عيد العمال" مناشدًا النائب العام بسرعة التدخل لإنقاذ مئات العاملين بالمصنع بعد أن أحالت وزارة القوى العاملة الأمر له، يقول سعيد عوض: "إحنا ما بنقبضش مرتباتنا بقالنا شهرين، وعيشين في عز الغلا ده من غير قرش نصرف بيه على بيوتنا، وفي نفس الوقت صاحب المصنع بيستورد زيوت زي ما هو عايز ويوديها لشركات تانية كمنتج باسم المصنع". لم تكن مي محمد أبويوسف أفضل حالًا من مئات العاملات التي قُطعت أرزاقهن، تروي قصة شركة "ميجا تكستيل" للملابس الجاهزة التي أغلقت أبواب الرزق أمامها، بعد 6 سنوات عمل بالشركة لتساعد والديها وأخواتها الست وتُعينهم على مُتطلبات الحياة، بقولها: "الشغل كان شغال كويس في المصنع، لحد ما المستثمر اللي فاتح الشركة قرر يعين مستشار ليه عشان يبلغ العمال إنه هيقفل الشركة ويصفيها". الفتاة التي لم تتجاوز سن الخامسة والعشرين، لا يوجد لديها سوى حلم عودتها للعمل بالمصنع ارتبطت حياتها به، فهي لا تنسى أصوات المكن الدائر الذي يعطيها الحماس لمزيد من الجهد والعرق، مضيفة: "أنا و250 من زمايلي نظمنا وقفات احتجاجية كتير ورفعنا لافتات طالبنا فيها بإننا نرجع نشتغل، وده خلا وزارة القوى العاملة تطالب صاحب المصنع إنه يعيد فتحه لكن رفض". الأمر انتهى بين العمال وصاحب الشركة إلى اتفاق بصرف مكافأت تكون مقابل تشريدهم بعد إغلاق الشركة، "قالولنا إنهم هيدو كل واحد عمره أقل من 30 سنة شهرين على كل سنة خدمها في الشركة، و4 شهور لكل واحد عمره زاد عن 30 سنة، لكني تفاجأت إنهم بيخالفوا الاتفاق يصرفولنا نصف شهر بس عن كل سنة خدمة في الشركة". مأساة جديدة تعيشها الفتاة العشرينية بعد قطع رزقها، مؤكدة عدم قدرتها على العمل في أي مكان آخر، "قالولي إني مش هقدر أخد ورقي من الشركة اللي اتقفلت إلا بعد صرف المكافأة، ومرتبي وقف، ومش هعرف أخد فلوس من أبوية وأمي عشان كفاية عليهم إخواتي ال6، ومش هعرف اشتغل تاني غير لما الشركة اللي اتشردت بسببها تديني ورقي". عدد المصانع المتعثرة وصل في الآونة الأخيرة إلى ما يقارب 7000 مصنع باستثمارات تقدر بنحو 42 مليار جنيه، وفقًا لإحصائيات مجالس إمناء المدن الصناعية وجمعيات المستثمرين بالمحافظات، ويعمل بتلك المصانع قرابة مليوني عامل في قطاعات الغزل والنسيج وصناعة الملابس والكيماويات والصناعات الهندسية والغذائية، ومن توقف منها حوالي 3000 مصنع قبل ثورة يناير 2011 في مقابل حوالي 3000 مصنع آخر في خلال السنوات الأربعة الأخيرة، علاوة على 1000 مصنع متعثر بعد على وشك التوقف. إلهامي الميرغني، الباحث العمالي والاقتصادي، يرى أن بعض المصانع المتوقفة والتي تم إغلاقها كان نتيجة سوء الإدارة الذي ينعكس على المصانع من ناحية وعلى العمال من ناحية أخرى، مشددًا على أن سياسات الدولة مع الشركات المتعثرة غير واضحة بدليل تعهدات رئيس الوزراء لعمال شركة "غزل المحلة" بضخ استثمارات كثيرة، في حين أن الحكومة لم تفعل شيئ حتى الآن ولا زالت الشركة تعاني وتغلق أقسام إنتاجها بسبب عدم توفر السيولة. الميرغني أوضح ل"الوطن"، أن الدولة ليست بحاجة إلى سن تشريعات جديدة ولكنها بحاجة إلى إدارة سياسية حريصة على تنمية المصانع والعمال، مناشدًا وزارة الصناعة وهيئة التنمية الصناعية إجراء إحصاء بعدد المصانع المتوقفة لعدم وجود مصدر دقيق لمعرفة العدد الرسمي للمصانع المغلقة والمتعثرة. محمد عابدين، المستشار القانوني بحملة "نحو قانون عمل عادل"، أشار إلى كارثة جديدة شهدها مصنع "قوتة" للحديد والصلب بمنطقة العاشر من رمضان، بعد أن حاول عماله إعادة فتحه ذاتيًا، ليفاجئوا بمطالبة شركة الكهرباء بتعجيزهم ومطالبتهم بتسديد فواتير عشرة أشهر متأخرة، قبل أن تقطع الماء والكهرباء عن المصنع، لافتًا إلى أن الدولة لم تفعل شيء مع هؤلاء العمال الطامحين ولم تفلح تجربتهم رغم تعهدهم بتسديد القروض المستحقة عليهم بجهود ذاتية.