فى جبل مريم، يتوقف الزمن، حيث وطنك الجديد، الذى اخترته لمحطتك الأخيرة، فى بقعة من قلب الوطن، على شط القناة، الأرض التى غنيت لها كثيراً، وبكيتها كثيراً، ليحتضنك تراب عشقته حتى النهاية. كانت رحلة طويلة من أبنود أرض النخيل وشواشى الذرة و(الغناوى) والناس الطيبين، إلى عاصمة الحلم والجنون وآمال لا تعرف السكون، ثم يرحل المسافر بزاده الأخير، وقد انتفت المصالح وتوقفت الحسابات، وانعدمت الفوائد. فبماذا امتلأت حقائبك يا خال؟ لتسمح لى بنظرة أخيرة، أرى كلمات شددت بها الهمم، ترانيم عشق وحكايات البلاد والعباد من الأرض المنسية، هناك فى الجنوب حتى آخر الحدود، أرى توثيق لحظات النصر، رثاء ليالى الانكسار، لنهار حزين (عدى) على ربوع الوطن، لم نسمع منك كلمة رديئة تثير شهوة أو غريزة، لم نلمح سوى عرق الغلابة وصبرهم، كفاح الرجال وعزمهم، وسيرة الفوارس وحلمهم. من منا لم يجد فى كلماتك رسولاً لحبيب، عندما أصبح للقلب عيون (مابتنمش).. والتوبة التى عبثاً كلما أقولها (ترمينى المقادير يا عين).. وعرباوى وقد شغلته (الشابة الحلوة السنيورة أم التربيعة بترسم ضلاية على القورة).. من منا لم يقسم (بسماها وبترابها)، من منا لم يبك عندما (عدى النهار) والمغربية هلت كئيبة حزينة.. من منا لم يدرك أن زواج عتريس من فؤادة باطل (وياعينى على الولد).. من منا لم ينظر (بره الشبابيك).. أو ينبهر بذلك (اللى جاى من بلاد بعيدة لا زاد ولا ميه) ويونس فى بلاد الشوق رافضاً سجن العشق من بنت الهلالية لنتعلم أنه لا حب بلا حرية.. من منا لم يفش له الهوى سراً و(طاير يا هوى طاير على المينا رايح يا هوى تخبر أهلينا)، من منا لم تصبه رموش عين فأردته (صياد ورحت أصطاد صادونى، فرشوا شباكهم برمش العين صابونى، واوعوا تحلوا المراكب والله يا ناس ما راكب ولا حاطط رجلى فى الميه إلا ومعايا عدوية.. يا عدوية).. من منا لم يتدثر بحب البهية مع النديم (يالولا دقة إديكى ما انطرق بابى.. طول عمرى عارى الجسد وانتى جلبابى.. ياللى سهرتى الليالى يونسك صوتى.. متونسة بحس مين يا مصر فى غيابى)، من منا لم يدرك أن حتى ذئاب الجبل ممكن يكونوا (غلابة)، من منا لم يتغن بلون شمس الجنوب (وآه يا أسمرانى اللون.. حبيبى الأسمرانى).. من منا لم يصل على نبينا المكمل وهو يسمع سيرة بنى هلال.. لأبتسم رغم الدموع، رغم الفراق، وأدرك الحقيقة واضحة، مين قال إنك مت خلاص، هم العشاق بيموتوا زى بقية الناس، مت إزاى يا خال، وأنا شايفة يامنة بتسامرك وهى قاعدة على باب الدار، (والله وشبت ياعبدالرُحمن.. عجزت يا واد؟). لا يا عمة.. لساه كلامه شباب، الزمن ما يعرفلوش ميعاد. (إذا جاك الموت يا وليدى موت على طول، اللى اتخطفوا فضلوا أحباب صاحيين فى القلب كإن ماحدش غاب). كده يا خال تسمع كلام العمة، وتسيبنا فى غمة، ما تخفش كنت هتفضل أعز أحباب، كنت أصبر عالوطن حبة لما الفرح يدق الباب، ويهل الخير على الأعتاب، (ولسه ماشبعتش طوافة ياللى بتطوف من سنين)، ولا عمرنا هنشبع من طوافك ولغيرك هنسمع لمين؟ (زوجى حراجى، وصلنا خطابك، شمينا فيه ريحة الأحباب، ربنا ما يورى حد غياب)، وفاطمة يا خال لساها مستنية حراجى القط يبنى السد ويرجع يلاقيها فى ضهر الباب، شايلاله كلمتين حب وعتاب. (ع الزتون والبرتقالة ارمى ضياتك أمانة احنا يكرهنا اللى خاين واحنا تكرهنا الخيانة). والله الخيانة هلكتنا يا خال باسم الدين وباسم حقوق الإنسان، (تتعسنى فكرة إنى هاموت، قبل ما أشوف لو حتى دقيقة رجوع الدم حقيقة، وموت الموت قبل ما تصحى كل الكتب اللى قريت والمدن اللى فى أحلامى رأيت والأحلام اللى بنيت والشهدا اللى هويت والجيل اللى هدانى والجيل اللى هديت قبل ما أملس ع الآتى، وأدفن كل بشاعة الماضى فى البيت، حاقولها بالمكشوف، خايف أموت من غير ما أشوف تغير الظروف، تغير الوشوش، وتغير الصنوف والمحدوفين ورا مبتسمين فى أول الصفوف، خايف أموت وتموت معايا الفكرة لا ينتصر كل اللى حبيته ولا يتهزم كل اللى كنت أكره، اتخيلوا الحسرة). آسفين يا خال، لسه الأحلام برضك أحلام، ولسه الوشوش ولسه الكروش، ولسه الماضى مش راضى، بنحاول نسامحه علشان يغور يرحل وبرضه مش راضى، والوطن حزنان، والتاريخ خجلان، آسفين، سامحنا يا خال، يا ريحة الريحان، وعقود الفل، وشمس المغيب بتوعد شراع حزين، من نوار قطن الوطن مغزول، ببكره اللى جاى، اطمن بندور على شعاع الضى، وهتفضل مدفينا بصدق القول والفعال، وسلامنا ليامنة أمانة، مع السلامة، مع السلامة يا خال.