رحل نجيب محفوظ فى أغسطس 2006 لأجدنى فى جنازته الشعبية من مسجد الحسين ثم جنازته العسكرية من مسجد آل رشدان وسط زحام المشيعين لجثمانه، أسجل شهاداتهم عن سيد الرواية العربية وأسأل نفسى كيف لم أسعَ ولو لمرة واحدة لأن أقابله وألقى سلاماً عابراً بالنسبة له وتاريخياً بالنسبة لى؟ لماذا نرى فى بعض الأحيان أن وجود قامات بيننا هو من المسلمات التى لا تستحق حتى التأمل. لفترة طويلة لم أكن من مُريدى أدب نجيب محفوظ وكنت أظن أن أدباء آخرين يستحقون الاحتفاء بهم أكثر منه، ولكنى كنت أفخر كمصرية فقط بأنه حصل على الجائزة رفيعة المستوى! حاولت مراراً أن أقرأ ثلاثيته ولكنى أراها مملة، فما المبهر فى الحارة المصرية؟! أحب أداء يحيى شاهين لشخصية سى السيد بجملته الشهيرة «بضاعة أتلفها الهوى»، وأحاول كطفلة أن أفهم تناقض هذا الرجل الديكتاتور فى منزله الذى له وجه آخر فى جلسات الأنس والفرفشة فى بيت السلطانة، أشهر عوالم وراقصات بين القصرين، ولكن هل يستحق هذا الأمر جائزة نوبل؟ يالسذاجة تصورى! يهدينى أحد أصدقائى وأنا فى فترة دراستى الجامعية نسخة من رواية نجيب محفوظ الممنوعة وقتها من النشر «أولاد حارتنا» وأقول لنفسى لماذا لا أحاول مرة أخرى أن أتعرف عليه، وفجأة «تندهنى النداهة».. ينتهى الكتاب ولا تنتهى دهشتى، ثم أقرأ الثلاثية مرة أخرى لأجد نفسى أستمتع بالتفاصيل ولأجد الحارة أوسع وأرحب مما كنت أظن، وأتوه بين الحرافيش وقلب الليل والطريق وثرثرة فوق النيل والمرايا، ولأكتشف أن لنجيب محفوظ عوالم أخرى غير عوالم سى السيد السينمائية. أفهم كيف أوحت شخصيات نجيب محفوظ لفنانين تشكيليين أن يرسموا حارته، ولا أفهم كيف لصانع كل هذه الشخصيات والحاصل على «نوبل» أن يتحلى بكل هذا التواضع الذى يجعله يستشعر الحرج من الجلوس على مكتب توفيق الحكيم بعد وفاته لأنه معلمه وأستاذه! إحدى أبرز سمات أدب محفوظ هى الرمزية والتى كانت محلاً لخلاف واسع، بل وكانت سبباً رئيسياً فى منع نشر «أولاد حارتنا». وربما كان المفكر والناقد السورى جورج طرابيشى أبرز من حاولوا فك هذه الرموز فى كتابه «الله فى رحلة نجيب محفوظ الرمزية» حيث رأى أنه ليس من المستبعد أن يكون عامل الضغط الاجتماعى مع الاعتبارات الفنية هى التى حددت النقلة المباغتة باتجاه الرمزية، بدءاً من رواية الطريق ومروراً بالشحاذ ووصولاً إلى قصص حكاية بلا بداية ولا نهاية التى فى رأيه بالغت فى الرمز إلى حد الإلغاز وأوقعت الضليعين من النقاد، فضلاً عن غير الضليعين فى تأويلات خاطئة. خصصت بريطانيا عام 2016 للاحتفال بمرور 400 عام على وفاة ويليم شكسبير الذى أثرى الأدب الإنجليزى واللغة والثقافة فى وقت كانت فيه تحولات سياسية واقتصادية كبرى، ولعل وصف صحيفة الإندبندنت البريطانية لهذا الاحتفال كان الأدق عندما قالت «فى أبريل 1616 مات رجل ولكن وُلِدَ إرث»، واحتفالاً بهذا الإرث أصدر وقتها المركز الثقافى البريطانى 7 كتيبات باسم living Shakespeare عبارة عن رؤى نقدية لمؤلفاته كتبت بأقلام سياسيين واقتصاديين وشعراء من دول وثقافات مختلفة، مثل «جون كيرى» وزير الخارجية الأمريكى الأسبق والروائية العربية «أحلام مستغانمى» والنجم الجنوب أفريقى «جون كانى»، والأديب النيجيرى «وول سويانكا» الحاصل على نوبل والذى رأى أنه لا سبيل لمحاربة التطرف سوى التنوير. وحتى هذه اللحظة نجد معالجات سينمائية وروائية لأدب شكسبير أكثر عصرية، الأمر الذى جعل النجم المسرحى البريطانى رالف فاينس يقدم منذ أيام ورشة عمل عن مسرحية ماكبث لطلبة إحدى مدارس ليڤرپول كجزء من مسئوليته المجتمعية كى تتعرف الأجيال الجديدة أكثر على شكسبير. نجيب محفوظ كوليام شكسبير سبق عصره ولم يلتفت لمجتمع قد لا يتقبل أفكاره فى زمنه، فاستخدم الرمز لتصبح أعماله حمّالة أوجه، كلوحة الموناليزا لدافينشى، كلما نظرت لها من اتجاه مختلف تظن أنها تنظر لك وحدك. فى ديسمبر 1911 ولد نجيب محفوظ، ولعلها فرصة لأن نحتفل بإرثه المتجدد الذى لا ينضب. دون أن ننتظر 400 عام لإحياء هذا الإرث والاحتفال به على المستوى الذى يليق برجل تمسك بهويته المصرية وهو يعتلى قمة العالمية.