- مستعجل على إيه؟ قالتها وهى تجذبنى بقوة عندما هممت بالقيام، فسقطت إلى جوارها مستسلماً.. فأنا نفسى لا أرغب قى تركها. أشعر بأن الزمن توقف بين ذراعيها، وأن الحياة استكانت هانئة على صدرها.. لكن ما العمل..! - خليك الليلة دى.. حولت وجهى ناحيتها، ونظرت فى عينيها الخضراوين، فأحسست بالعالم يتراجع. بكل لهاثه وصراعاته، يتراجع. وبقيت وحدى مع طاقتى الإشعاع الأخضر. والصمت. أتراها نبوءة شكسبير المشئومة ليوليوس قيصر عندما همّ بالخروج ليلة مصرعه. لم أجد الجواب. فتناولت وجهها بكلتا يدىّ وقبلتها فى عينيها وأنا أتساءل ببلاهة: هل يطلع على البشرية يوم يفرض فيه الحب نفسه على الحرب؟ - فيها إيه لو اتأخرت عليهم يوم تانى؟ كان صوتها متوسلاً متهدجاً. وداخلنى إحساس ثقيل بأن شيئاً ما سيقع.. شىء مبهم.. لا أعرف كنهه.. يوشك أن يقع.. تحاول باستماتة أن تبقينى بعيداً عنه. وعاودتنى من جديد ذكرى المشاعر المرعبة التى تتأبى على النسيان، عندما دخلت حقل الألغام مع زميلىّ، وشاهدت أشلاءهما تتطاير فى الهواء.. وتسمرت فى مكانى منهاراً لا أعرف ما العمل. وقد أخرسنى الصمت رغم رغبتى الطاغية فى الصراخ.. تماما كما يحدث الآن. - هى العمليات بتاعتكوا دى مش ح تنتهى؟ وضعت رأسها فوق صدرى وأحاطتنى بذراعيها وتساؤلاتها كالشباك، تشل مقاومتى. وتشل لسانى عن الجواب. رغم أنى أعرفه.. أعرف جيداً أن الحروب لا تنتهى، الرجال فقط حياتهم هى التى تنتهى.. سأخرج فى يوم كهذا لأركب السيارة مع الرفاق.. نتكلم ونتسامر حتى نصل إلى الوحدة.. ثم يأتينا الأمر بالهجوم.. وفجأة دون أن أدرى.. ودون أن أعرف من أين أتتنى الضربة.. أسقط.. ويسقط عالمى فوق رأسى.. وأنتهى.. دون أن تنتهى الحروب.. لكن ما العمل..؟ - تفتكر فيه فايدة من ده كله؟ يا الله.. هذا هو السؤال المؤرق.. انتصبت قليلاً بجسدى، وأسندت رأسى المحمومة إلى مسند السرير وتحسست علبة سجائرى بيد مرتعشة، وأشعلت واحدة، رحت أنفث دخانها بكثافة أمام عينى ليحجب عنى هذا المعنى الذى كنت حريصاً على ألا أراه.. كنت أشعر به منزوياً داخل أغوار نفسى السحيقة، يرقبنى، ويتربص بى، ويتحين الفرصة ليتبلور أمامى فى كلمات.. فأنا لا أؤمن بقربان الجسد. لا أؤمن بالأضاحى البشرية، وحتمية الدم المراق للبعض من أجل خلاص البعض الآخر. لا أؤمن بالحروب. لا أؤمن بأن القتل يثمر خلاصاً.. أؤمن بأن القوة تحيل صاحبها إلى جلاد.. أؤمن أن معركة الإنسان الحقيقية هى معركة إيقاظ الوعى والضمير. معركة إيقاظ الحس البشرى المشترك.. أؤمن بتجربة الرجل النحيل العارى الذى انتصر بمغزل وعنزة على الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس.. لكن ما العمل..؟ بحركة لا شعورية انتفضت خارج السرير هارباً، فتدحرجت رأسها من على صدرى وتأوهت. فانتبهت إليها، وإلى نفسى، وإلى الظلام الذى غيب معالم الحجرة الضيقة. وإلى صوت الريح المعربد فى ليلة شتوية عاصفة. وإلى طرقات المطر المزعجة على خشب الشباك.. وخُيّل إلى أننى فى عالم افتراضى. فى حلم. فى جو غريب كثيف، خانق، ملىء بالرموز الغامضة والمشاعر الكئيبة. تتحرك فيه الشخصيات حركة لا إرادية متوترة.. - برضه ما فيش فايدة؟ - إيه العمل.. رحت أرتدى ملابسى مغيباً، والحمى تعصف برأسى. وتساؤلى: هل يعرف الآخرون لماذا نموت. ولماذا يموتون هم. لماذا ندفع حياتنا معاً فى هذه الحروب التى ما إن تنتهى فى مكان حتى تبدأ فى آخر. هل يعرف الأمريكيون الذين يفخرون بأنهم لا يحاربون على أراضيهم أنهم يزيدون الطين بلة بدم أبنائهم المراق فى كل بقاع العالم.. هل يعرفون أن كوبا، وكوريا وكمبوديا وفيتنام وأفغانستان وباكستان وفلسطين وسويا والعراق، وغيرها، ليست إلا أقنعة زائفة لحقيقة واحدة: إن الجميع على الطرفين، يموتون من أجل زيادة ثراء حفنة مريضة بتخمة المال تحالفت مع ساسة مرضى بالسادية وجنون العظمة. إلى متى تظل الضحايا تقتل بعضها، وبؤر الشر فى مأمن من الموت والحساب.. ألم تبلغ الإنسانية سن الرشد بعد، رغم بلوغها الواحد والعشرين قرناً. - ح ترجع إمتى؟ آه ياحبيبتى.. لو تعرفين كم أكره منك هذا السؤال.. وأكره أن أجيبك بأنى أخرج قسراً.. حاملاً صليبى على ظهرى دون أن أعرف أصلاً.. إن كنت سأعود أم لا.. وأكره هذه الصورة الذى تصيبنى بالغثيان وتسقط من يدى الحذاء. - مبتكلمنيش ليه.. مالك؟ - الصداع ماسكنى - أجيب لك قرصين بانادول... انتصبت من السرير عارية، واتجهت نحو الدولاب.. لم أستطع أن أبعد عيناى عن خطوط جسدها المنحوت بدقة فى استدارات جميلة، وبشرتها البيضاء الناصعة المتلألئة فى كآبة الغرفة. فبدت كما لو كنت أراها لأول مرة.. أو لآخر مرة.. بدت وكأنها ربة القمر البيضاء.. نزلت فى ليلة كبد معتمة لتغرى عشيقها بالمبيت فى أحضانها قائلة تعالَ إلى ذراعى أيها التعس البائس الثقيل الحمل. تعالَ إلى النرفانا الأرضية أرح رأسك على صدرى وأجهض عقلك وتجوف كالبوذا لتتغلب على آلام هذا العالم.. وتستنير برؤيته على حقيقته. أحسست بالخدر يشل حركتى وجلست على حافة سريرها متسائلاً: ماذا لو صدقت هواجسها، وقبلت غوايتها، بقيت إلى جانبها الآن.. وإلى الأبد.. ماذا لو نفضت عنى كل شىء واتخذت لحياتى منحى آخر.. وعشت لروحى.. أطلب خلاصى وحدى، فى ركنى المحبب مع كتبى وسيجارتى الممشوقة، وقهوتى السوداء التركية، وسحر أشعارى العربية وطرب ألحانى الشرقية وحلاوة المتع البسيطة اليومية.. لماذا أطلب خلاصاً مستحيلاً عبر خلاص الآخرين. لماذا أجعل من جسدى قرباناً لعالم مجنون يمارس العنف والكراهية كمكون أساسى لحياته اليومية.. أما يكفى إدراكنا للحقيقة كى نتحرر.. - ابلع دول لم تعد بى قدرة على البلع يا حبيبتى.. إنه الوقت الذى أصبح فيه الاستمرار عبثا لا يحتمل.. ليس جبناً منى.. لكن من حقى أن أتساءل عن معنى موتى فى عالم غامت فيه معانى العدالة والحب والسلام، وتشوهت كرسوم السرياليين. عالم مولع بقرابين الجسد، يتناول الدم المسفوح فى كؤوس من ذهب وهو يحتفل بقتل السلام.. وقتل رب السلام إذا ما أطل بوجهه مرة أخرى.. .. استردت الكأس من يدى وجلست فوق ركبتى، لتزيد معاناتى بسحر إغواء الربة البيضاء التى حلم الناس بمرآها قروناً وقروناً.. ها هى الآن على ركبتى تستحثنى وتطوقنى بذراعيها وتدفن وجهى عند مجرى العطر من نهديها.. وتصرخ بى أن أهرع إلى نشوة الحب الصوفية الصافية.. إلى واحة الإنسان الطيب الذى أغلق أبوابه فى وجه عالم شقى جاحد بنعمة الحياة التى لا تعطى إلا مرة واحدة. صك أذنىّ فجأة نعيق نفير السيارة مدوياً.. انتفضت بسرعة بلا وعى كمن لدغته أفعى، فسقطت من على ركبتى وهى تضحك من فعلى المدرب كالفئران، وترقبنى وأنا أهرول كالمخبول لألتقط سترتى وحزام مسدسى، وأفر هارباً، دون كلمة وداع.. وصوتها يجلجل فى أذنى: - خلى بالك من نفسك رحت أنزل السلم قفزاً وأنا أرتدى سترتى وأحكم لفها كالكفن حول جسدى، وأحاول أن أتخلص من ذلك السطوع الذى داهم وعيى فجأة، وأعيده إلى ظلمة النسيان من لا شعورى بالبانادول أو الترامادول حتى.. فالحروب لن تتوقف، ما دامت هناك صناعة مربحة للسلاح. وما دام هناك علماء يسخرون مواهبهم فى ابتكار قنابل الدمار الشامل. وما دام هناك أناس ارتضوا احتراف القتل كمهنة توفر لهم بعض الميزات الإضافية، متوهمين أن الرصاصة ستنحرف عن صدورهم فى آخر لحظة لتصيب ذلك الآخر الواقف إلى جانبهم.