على مدى شهر سابق على انعقاد المؤتمر الاقتصادى بشرم الشيخ ونحن نطالع تصريحات سيادة محافظ البنك المركزى والعديد من رؤساء البنوك المصرية مؤكدين جميعهم قدرة القطاع المصرفى المصرى على تمويل الشركات التى ستنفذ المشروعات المطروحة فى المؤتمر، وأن البنوك المصرية لديها أكثر من 600 مليار جنيه جاهزة لتمويل وإقراض الشركات الاستثمارية الأجنبية الجادة والمشاركة فى المؤتمر والراغبة فى العمل فى السوق المصرية. ورغم يقينى بأن المجال المصرفى له ظروفه الخاصة التى تحكمه، كما له أعرافه المستقرة التى تحدد العلاقات المختلفة فى هذا المجال والتى تجعل مسئولى البنوك ومتخذى القرار فيها يتطلعون إلى تحقيق أكبر عائد بأقل تكلفة ممكنة وفى أقصر وقت ممكن. ورغم وجاهة التصريحات الصادرة عن مسئولى البنوك المصرية ورغبتهم الأكيدة فى المشاركة الفعالة والإيجابية فى تدعيم المؤتمر الاقتصادى والعمل على نجاحه ومدّ يد العون للشركات المشاركة فيه، فإن المستفز فى الأمر أننا لم نجد هذا الحديث وتلك الرغبة فى مساعدة المستثمر المصرى والشركات المصرية الصغيرة والمتوسطة التى تعانى أشد المعاناة فى مسألة التمويل والإقراض فى السنوات العشر الأخيرة. يعلم الجميع أن هناك أكثر من 2400 مصنع متوقفة عن العمل لنقص السيولة والخامات، كما يعلم الجميع أن هذا العدد الهائل من المصانع المتوقفة تعول آلاف الأسر للعاملين فيها، ويشترك فى دولاب العمل بها أكثر من ثلاثين حرفة وصناعة مغذية ومرتبطة بها، وحتى الآن ما زالت تلك المصانع متوقفه دون أن يعيرها مسئولو البنوك المصرية أى اهتمام أو يبتكروا حلولاً تقيلها من عثرتها. الجميع يعلم أن هناك الآلاف من شباب الخريجين وأصحاب المهن والحرف والصناعات الصغيرة الراغبين فى العمل لا يعوقهم عن تحقيق هدفهم سوى الحصول على جزء من تمويل صغير لتلك الحرفة أو هذه الصناعة، ولا يخفى على أحد حجم المعاناة التى يعانيها أى من الشباب عندما يشرع فى الحصول على قرض لا يزيد على 50 أو 100 ألف جنيه، مئات الطلبات والموافقات والدراسات والضمانات وهلم جراً، وفى النهاية يمكن إقراض شاب من كل ألف شاب تقدموا لإيجاد عمل شريف من خلال مشروع بسيط يمثل لهم كل الحياة والطموح والأمل فى بناء بيت وزوجة وأطفال، لكن تتكسر تلك الأحلام أمام رد مسئولى البنك بعدم إمكانية التعاون معهم بحجة أن الضمانات غير كافية أو سابقة الأعمال غير متوافرة أو لأى أسباب أخرى وهمية. 600 مليار جنيه جاهزة فى البنوك المصرية لتمويل شركات أجنبيه!! وتمتنع ذات البنوك عن تمويل مصنع بلاستيك أو مكبس قش أرز أو محلج قطن أو فرن عيش أو مزرعة مواشى لأى من الشباب المصريين الراغبين فى العمل!! كنت أحلم بأن يخرج سيادة محافظ البنك المركزى الأستاذ هشام رامز ويقرر أن البنوك المصرية الخاضعة لإشراف البنك المركزى لديها 600 مليار جنيه جاهزة للتمويل والإقراض نعم، لكن تم تخصيص 100 مليار للاستثمار فى المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر وللحرفيين والشباب والمرأة المعيلة، و50 ملياراً لإعادة تشغيل المشروعات والمصانع التى توقفت فى المرحلة الماضية، وما زالت متوقفة حتى الآن، لنقص فى التمويل أو الآلات أو الخامات، على أن يكون مبلغ ال450 مليار جنيه الباقية معداً لتمويل الشركات الأجنبية المشاركة فى المؤتمر الاقتصادى والمشروعات المطروحة فيه وعلى النحو الذى صرح به محافظ البنك المركزى والعديد من رؤساء البنوك. نعم، المؤتمر الاقتصادى سيعود علينا وعلى بلادنا بالخير الوفير بإذن الله، وستقوم مشروعات عملاقة تُعين الاقتصاد المصرى والدولة المصرية على النهوض من كبوتها، لكن من الأولى أن يكون ذلك بجانب الاهتمام بالصناعات الصغيرة التى تعين المواطن على الحياة وتعود عليه بدخل يومى سريع يواجه به أزمات الحياة وصعوبتها. من الأولى الاهتمام بإعادة تشغيل المصانع والمشروعات المتوقفة التى يعيش موظفوها والعاملون فيها عيشة ضنك نتيجة توقف العمل وعلى أمل إعادة التشغيل. من الأولى تمويل المشروعات قصيرة المدى التى يشعر المواطن بعائدها بسرعة كبيرة بخلاف المشروعات بعيدة المدى التى لا يشعر بها أو يجنى ثمارها المواطن إلا بعد زمن بعيد قد يكون قد فارق الحياة فيه. المصريون يثقون فى القطاع المصرفى ويقدّرون أنه قد حافظ على وجوده فى المرحلة الصعبة الماضية، ويقدرون دور قائده السابق الدكتور فاروق العقدة الذى قاد السفينة فى ظروف غاية فى الصعوبة ونجح فى العبور بها إلى بر الأمان، وأنه بقدرته العلمية والعملية نجح بامتياز وخلق نموذجاً يُدرس فى عالم المال والأعمال، وقد كان خلفه السيد هشام رامز على ذات الدرب، وهو يمتاز بقدرة هائلة على العمل بأسلوب علمى يبهر كل المتعاملين معه. ويؤمن المصريون أن القطاع المصرفى هو القلب الذى يضخ الدماء فى جسم الاقتصاد، فإذا توقف هذا القلب عن النبض مات الجسم وانتهت الحياة، ولهذا فالدور المنوط به يمثل العمود الفقرى للاقتصاد المصرى، ولذا فعلى القائمين عليه القيام بواجبهم الوطنى لعلاج المشاكل المثقل بها الوطن والمواطن حالياً، المرحلة التى تمر بها البلاد يجب ألا نرى فيها أيادى مرتعشة فى دعم وتمويل وإقراض صغار المستثمرين والحرفيين والصناعات الصغيرة. نرى الآن إجراءات فى غاية الصعوبة بالنسبة لتحويل العملة الأجنبية فيما يتعلق بالاستيراد ومشاكل وصعوبات يعانى منها المستوردون والتجار فيما يتعلق بشراء الدولار وتمويل الاعتمادات المستندية تحت زعم السيطرة على سعر الصرف والحيلولة دون ارتفاع سعر العملة الأجنبية. حرب ضروس على شركات الصرافة، معركة تكسير عظام مع من يتعامل فى النقد الأجنبى، والسؤال: إيه المطلوب، خروج الجميع من السوق باستثناء البنوك المصرية؟ هل المطلوب إشهار إفلاس شركات الصرافة وإخراجها من السوق؟ هل المطلوب انضمام آلاف العاملين بها إلى العاطلين والفاشلين والمفلسين؟! البنوك تسمح للحكومة بما لا تسمح به لصغار المستثمرين أو شباب الحرفيين، البنوك تسمح للحكومة بإسقاط بعض الديون، وبجدولة الباقى، وتسمح بالتنازل عن الفوائد وعن جزء من الدين ولا تسمح للشباب أو الحرفيين أو أصحاب الصناعات الصغيرة بأى من ذلك، البنوك تسمح لشركات القطاع العام والأعمال بالسحب على المكشوف، لكنها تحبس أى شاب كتب على نفسه شيكاً ولم يسدده فى الميعاد، البنوك ترى أن كل تصرف من تصرفات الحكومة وشركات قطاع الأعمال العام حلال لهم وحرام على الضعاف من شباب المستثمرين والحرفيين البسطاء. الواقع يثبت ويؤكد أن هناك خللاً اقتصادياً شديداً تتجلى مظاهره فيما أصاب السوق المصرية من ركود.. لا أحد يبيع، لأنه لا أحد يشترى. البورصة المصرية حالها كحال شهر أمشير، يوم شمس، ويوم مطر، ويوم عواصف، لا قواعد ولا استقرار ولا أمان، أسعار العقارات حدّث ولا حرج، ارتفاع سعر الدولار رغم الإجراءات القاسية التى لم تشهدها مصر فى تاريخها القريب أو البعيد، ناقص فقط إدراج الدولار داخل جدول المخدرات، حيازته أو إحرازه جريمة، تزايد حالات الإفلاس، ضرب أسعار السياحة، الغرفة فى شرم الشيخ وصل سعرها 10 دولارات، 45% من المصريين تحت خط الفقر. كل تلك الأمور لا حل لها دون رؤية مصرفية واضحة قادرة على ضخ الدماء فى شرايين الاقتصاد المصرى لإقالته من عثرته وانتشاله من تلك الهوة السحيقة. نعم، المشروعات المطروحة بالمؤتمر الاقتصادى العظيم الذى عُقد أخيراً بشرم الشيخ مشروعات عملاقة، لها جدواها على المدى البعيد، لكن مطلوب وبسرعة التدخل لإنقاذ الكيانات الاقتصادية الصغيرة ومتناهية الصغر، مطلوب الأخذ بيد الصنايعية والحرفيين والصيادين والفلاحين بقروض بسيطة وصغيرة وميسرة وبغير تعقيدات القوانين المصرفية. الأمر جد خطير، ولا بد من رجل بقوة هشام رامز لاتخاذ إجراءات خاصة وسريعة لإعادة دوران ماكينة ودولاب العمل للرجل البسيط، الرجل الذى كل حلمه تروسيكل أو حظيرة مواشى أو محل بويات أو فرن عيش. مشروعات بسيطة لكنها فى الحقيقة مجتمعة تمثل مصدر رزق 70% من أهل مصر المحروسة. أقولها، وبصدق: ارحموا من فى الأرض من المعدومين والبسطاء والعاطلين والجائعين يرحمكم من فى السماء. وللحديث بقية ما دام فى العمر بقية.