جملة بسيطة.. مبتدأ وخبر ولكن بينهما مساحة قد يستغرقنا عمر بكل ما فيه لقطع مفازتها دون الوصول. فالاعتذار ليس عدة حروف ننطقها فى عجالة إنهاءً لموقف.. أو إخراساً لشاكٍ.. أو حتى خروجاً من مأزق.. إنه ثقافة ونهج حياة.. ارتقاء عن صغائر المشاعر والأفعال.. إرساء لقاعدة أخلاقية نفتقدها كثيراً.. دفع بعضنا سعادته والكثير من عمره ثمناً ليتعلمها والأكثر حماقة لم يتعلمها أبداً.. فكثيراً ما نونئد تلك الكلمة بسيف الحماقة والكبر فى لحظة فنحصد ندم السنين.. بينما نملك على طرف ألسنتنا ما يطفئ ناراً للفتنة توشك أن تضرم.. أو خططاً للانتقام تحطم وتدمر.. نستطيع بها أن نمنح ما يطبطب على جرح نازف بالوجدان.. ويوارب أبواباً للتسامح كادت أن تؤصد علناً ندلف منها يوماً.. فنصيغ بمداد من ذهب دعوة مفتوحة لضيف رائع اسمه (فرصة ثانية). وقد كان للدكتور سلمان العودة سبق بمقال رائع عن ثقافة الاعتذار.. وإحياءً لسُنة أدبية مارسها العرب كثيراً.. أستميح أستاذنا عذراً أن أنجرف لجرأة مقابلة أدبية لمقال المعلم، مسلِّمة نفسى لتداعيات تلهم القلم ليبوح بأسرار القلب.. راجية منك قارئى العزيز الرأفة بى وعدم المقارنة بين الأستاذ والتلميذ. فرغم إسرافى فى استخدامها حتى على أخطاء لم أرتكبها -لم يهدر الكثيرون الفرصة لاستغلالها- لأقاوم ندماً على تضحياتى الصغيرة.. لكن ما زال هناك رصيد من الاعتذار أكتشفه وأعيه كلما مسحت الحياة على رأسى بأصابع الزمن.. تاركة قسوة التجربة على شعيرات فقدت لونها مع لون الأيام وطعمها. ليس بكاءً على أطلال ماضٍ انتهى ولكن وقود لغد ما زال يبحث عن أب شرعى.. عن فارس حقيقى.. عن زاد لطول طريق نمضى فيه دون أن نعرف متى تكون النهاية، سأعلنها بلا خجل.. تأديباً لنفس عاصية.. وترويضاً لكبرياء جامح. ■ آسفة لك يا ربى على استقبال نعمتك بمنطق المسلَّمات والأمر الواقع.. متدللة على روعة عطائك وجزيل فضلك باعتباره من طبائع الأمور. ■ آسفة على كل لحظات تعاملت فيها مع الكون بسلبية قوانين القصور الذاتى للأشياء ولم أدرك روعة وعبقرية اصطفاء الخالق لخلافة أهدرها الكثيرون وأنا منهم. ■ آسفة على شجاعة خانتنى.. أو مصلحة لجمتنى.. أو طمع أزاغ عينى.. أو خجل أخرس لسانى عن كلمة حق أظل أشقى بكفارتها وأجتهد ما بقى من العمر باحثة عنها. ■ آسفة على صمت فى غير موضعه وكلام كذلك. ■ آسفة لكل من خذلنى.. على اتهام أولى بى أن أوجهه لخذلانى لنفسى بثقة فى غير مكانها. ■ آسفة على نظرات دهشة وبراءة لم تبرح المآقى بعد من جنون عالم وقسوته.. لا يعبأ كثيراً بالساذجين. ■ آسفة لرفقاء العمر.. أو عابرى السبيل الذين أعلنت عليهم السنين الإقامة الجبرية فى أروقة الذكرى.. دون أن أناضل بقدر كافٍ من أجل بقائهم فى بساتين أيامى.. ودون أن أعبر لهم كم أحببتهم. ■ آسفة لذلك الآخر فى مكان ما من الأرض.. قد أكون أخطأت فى حقه بإرادتى أو دون قصد أو حتى علم منى. ■ آسفة لكل من طرق أبواب حياتى وأثر فيها دون أن أخبره بتقديرى لفضله. ■ آسفة لفارس تأخر كثيراً.. ومضت السنين.. وضاعت فرحة انتظاره.. ولهفة الوجود بين راحتيه.. وقد أخطأته العين وسط زحام وجلبة يثيرها دائماً فرسان آخر الزمان متبخترين بسيوف من خشب وخيول من صفيح. ■ آسفة لأحلام البنات.. وتلك الجزيرة البعيدة.. ومركب وحيد لم يجد الربان.. فأشرعة الحب مزقتها رياح الواقع وجراح القلب ووطن ينزف.. سامحينى.. ستظلين قيد الأحلام. ■ آسفة على اكتشافات ما زالت تغير مفاهيم الأمس وثوابته (فالحقيقة ما نراه).. وربما تعلن النهاية وينتهى الوقت وتجمع أوراق الاختبار بعد أن ندرك متأخرين جداً.. أننا لم نكتب الإجابات الصحيحة. ■ وأخيراً تظل أنت دائماً يا وطنى فارسى وحبيبى.. أحبك.. وآسفة لك.. لقد أهناك كثيراً وخذلناك كثيراً واختزلناك فى أغنيات ومواويل.. وفخر أحمق بأمجاد أهدرناها وحضارة ذبلت فاستباحها نهاشو القبور وباعوها فى مزادات العالم.. آسفة لك على شرف انتماء جبلنا عليه دون عناء ولم نكن أهلاً له بعد.. فامنحنا المزيد من حقول تسامحك مع سنابل قمحك.. لعلنا يوماً نكون.