عدوك -ببساطة- هو الذى يستهدف «وجودك»: تصفيتك مادياً، أى جسدياً من ناحية، ومحو هويتك الحضارية والثقافية والاجتماعية من ناحية أخرى. يفعل ذلك لتمكين أو لتأكيد أو لإثبات أو لتوسيع نطاق وجوده: مادياً ومعنوياً أيضاً. مصر تعرضت طوال تاريخها لمحاولات كثيرة من هذا النوع، وخاضت معارك طاحنة دفاعاً عن «وجودها» بهذين المعنيين. عانت كثيراً، ودفعت أثماناً باهظة، لكنها خرجت فى كل مرة أكثر ثباتاً وأصلب عوداً. والضرب لم يكن يميتها.. بل يعمّق «وجودها». ولمصر فى مسألة استهداف الوجود أعداء تقليديون، أى قدامى، اجتمعت لديهم -مع اختلاف التفاصيل- كل أسباب العداء.. والفشل أيضاً. هؤلاء يضيق المجال بذكرهم. كنت أظن أن «الغرب الاستعمارى» -وخلاصته «إسرائيل»- هو العدو التقليدى لمصر خلال المائة وخمسين عاماً الأخيرة. غير أن عصابة الإخوان الإرهابية، وما تمخض عنها من ميليشيات مسلحة، كافرة.. أظهرت من أسباب العداء لمصر، خلال أقل من أربع سنوات، ما يكفى لرفعها إلى مصاف الأعداء التقليديين. صحيح أن أسبابها ظلت «كامنة» عبر أكثر من ثمانين عاماً. لكن ممارستها منذ فاجعة «25 يناير»، وبالأخص منذ اقتلاعها من سدة الحكم فى 30 يونيو 2013، أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أنها أشد خطراً ومكراً وخسة من «إسرائيل». إذا كانت إسرائيل ك«فكرة» هى الأقدم (ظهرت بشائرها أواخر القرن التاسع عشر).. فإن عصابة الإخوان ك«وجود» فاعل ومؤثر سبقت إسرائيل بنحو عشرين عاماً (أطلقها سافل، بغيض، يدعى «حسن البنا» فى 1928). وكلتاهما ابنتان شرعيتان للغرب الاستعمارى: لبريطانيا تأسيساً.. وللولايات المتحدةالأمريكية تمكيناً ودعماً. ثمة أعداء جدد إذن. تختلف أدواتهم وأساليب عدائهم، لكنهم لا يقلون خطراً على مصر من إسرائيل والإخوان، والأحرى أنهم امتداد لكلتيهما.. سواء كانوا جماعات أو تشكيلات عصابية سياسية مثل «6 أبريل» و«الاشتراكيون الثوريون»، أو أفراداً تحسبهم نخبة.. وهم فى الحقيقة مرتزقة وتجار ثورات أو دين وذوو أجندات شخصية وعملاء ضمنيون لمؤسسات بحثية وأكاديمية أمريكية وأوروبية. ستلاحظ -من دون جهد- أن هؤلاء الأعداء الجدد أدوات، أو قل أبناء شرعيون لمؤامرة «الربيع العربى». بدأ نشاطهم فى سياق التحضير لهذه المؤامرة، أى فى النصف الثانى من العقد الماضى. وتصاعد بتصاعد وتيرتها، وصولاً إلى فاجعة «25 يناير». بدأ الأمر كما نعرف بإعلان عدائهم لنظام الرئيس مبارك، ثم اختلط العداء للنظام برغبة جامحة فى إسقاط مؤسسات الدولة، وفى طليعتها «الجيش» (كان جهاز الشرطة قد انهار بعد أربعة أيام من الفاجعة). وباندلاع ثورة 30 يونيو تزايدت حدة العداء لنظام الحكم ولمؤسسات الدولة، خاصة بعد أن اتفقت إرادة الغالبية العظمى من المصريين على اختيار رئيس من المؤسسة العسكرية، واستعادت هذه المؤسسة هيبتها، وبدا أن ثمة طموحاً وإرادة لبناء «دولة» حديثة.. على الرغم من وطأة الماضى، والغموض الذى يكتنف المستقبل. واجهت الدولة المصرية بعد ثورة 30 يونيو وسقوط حكم عصابة الإخوان تحدياً سافراً وشرساً على صعيدين: التخلص من إرث الماضى، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والحق أنها لم تنجز كثيراً على هذا الصعيد. ثم -وبالتوازى- إنجاز تعهد القيادة السياسية بالقضاء على الإرهاب، وقد قطعت فيه شوطاً بعيداً على صعيد الداخل، لكنها لم تنجُ من الانتقاد بسبب البطء المفرط فى إجراءات الإصلاح، فضلاً عن غياب رؤية واضحة، وحاسمة، لمواجهة المشاكل والأزمات اليومية للمواطن. أثناء ذلك، بدأ وعى المصريين بحجم ونوع وأطراف المؤامرة ضد مصر يتزايد يوماً بعد يوم، خاصة فى ضوء ما يجرى فى كل الدول التى وقف غراب الربيع العربى على أنقاضها. ظل المصريون يتابعون تجليات هذه المؤامرة بعيون يملؤها توجس، وحزن على شهدائهم فى سيناء وغيرها من أصقاع مصر، لكن الطموح إلى بناء دولتهم الحديثة لم ينقطع ولم يتوقف.. نقداً أو تأييداً. وما إن فُجعوا فى ذبح واحد وعشرين عاملاً مصرياً فى ليبيا على أيدى تنظيم «داعش».. حتى تغير كل شىء. دخلت مصر طوراً جديداً من حربها ضد الإرهاب، ولم يعد ثمة شك فى أنها «حرب وجود»، لا تستهدف نظاماً أو مؤسسات.. بل تستهدف «مصر» ذاتها: اسماً، وتاريخاً وجغرافيا، وهوية. كان من الطبيعى أن يلتف المصريون -من دون تمييز- حول قيادتهم السياسية وقواتهم المسلحة، وأن يفرض مناخ التعبئة هذا.. معياراً واحداً صارماً، وملزماً: «من ليس مع مصر فهو ضدها». وبهذا المعيار لم يعد الخروج على الإجماع مجرد «فعل خيانة».. بل يرقى بصاحبه -فى تقديرى- إلى مصاف «أعداء مصر». من المؤسف والمحزن أن يكون هؤلاء مصريين، وأن يتشاركوا جميعاً فى الخروج من عباءة «25 يناير»، وأن يتساووا فى الشماتة والسخرية والتطاول على الجيش والرئيس فى ظرف تاريخى كهذا.. مع أعداء مصر التقليديين!. لن أتحدث عن «6 أبريل» أو «الاشتراكيين الثوريين» أو غيرهما من التشكيلات العصابية، فعداؤهم لمصر سابق ولاحق، وهم فى الحقيقة «خطوط خلفية» لميليشيات داعش وبيت المقدس والإخوان بطبيعة الحال. لكننى سأتوقف عند أسماء بعينها.. كنا نظن أنهم بالكثير «مختلفون» مع النظام، أو حتى يطمحون إلى «دولة» بمعاييرهم (وهى محل خلاف وشك)، فإذا بهم «خونة صرحاء»، وإذا بخيانتهم عبء على «وجود» مصر. محمد البرادعى، كبيرهم الذين علمهم الخيانة، أطلق تويتة عقب مجزرة ليبيا، طالب فيها ب«مبادرة عقلانية وقيمية» وليس حلاً «عسكرياً» للأزمة!. أيمن نور، الهارب المتخم بخيانة البرادعى، حمّل «السيسى» مسئولية توريط مصر فى مستنقع ليبيا، وقال فى مداخلة لفضائية «مكملين»، التابعة لعصابة الإخوان، إن السيسى «اصطنع حالة انشقاق داخل صفوف الثورة الليبية، وسعى إلى أن يكون له دور لا يليق بقيمة مصر فى محيط جيرانها». وبرميل الحقد المسمى «بلال فضل» كتب فى جريدة «العربى الجديد» الإخوانية، مهاجماً الجيش ومشدداً على مخاطر الضربة العسكرية لداعش، وساخراً منها. أما منشق الإخوان ووجههم المتلون البغيض عبدالمنعم أبوالفتوح، فقد تجاهل الأمر وشن هجوماً حاداً على النظام، وهتف فى مؤتمر أمام أنصاره بسقوط حكم العسكر. الأسماء كثيرة، لكن المجال يضيق، وأخلاقى تمنعنى من الخوض فى آخرين وصلت بذاءتهم وجرأتهم على أسيادهم من جنود مصر البواسل إلى مستوى.. «خالد أبوالنجا»!