يقول الله عز وجل: «أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ». تتحدث تلك الآيات البينات عن شجرة الزقوم التى اتخذها ظالمو مكة مدخلاً للغمز على محمد صلى الله عليه وسلم حين حدثهم عن شجرة تنبت فى النار، رغم ما هو معروف من أن النار تأكل كل شىء، وذلك معنى قوله تعالى «إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ»، وأوضح القرآن أن تلك الشجرة تخرج من النار وعليها تتغذى، ولتقبيح منظرها شبّه الله «طلعها» برؤوس الشياطين، رغم أن أياً من المخاطبين بها لم يسبق له رؤية شيطان، لكنه فى قرارة نفسه يعتبر رأس الشيطان نموذجاً لكل ما هو قبيح. لم يرَ أحد من بنى آدم الشيطان، لكن كثيرين حاولوا رسم صورته، فى الأفلام السينمائية مثلاً تجد أن بعض المخرجين جسّدوا الشيطان فى منظر مقبض قبيح مرعب، كثيف الشعر والحاجبين، منقبض الوجه، يتطاير من عيونه الشرر، وثيابه من سواد، يحب الدماء، ويهوى سحق بنى آدم وإذلاله. هل تذكر فيما تشاهده هذه الأيام من أحداث نماذج شبيهة بما حاولت الأفلام السينمائية تقديمه وهى تجسّد «رؤوس الشياطين»؟ نعم بالضبط: «الدواعش». لو أنك تأملت صورة «الداعشى» فستجد أنها تقترب كثيراً فى ملامح رسمها وتشخيصها من صورة «الشيطان» الدرامى. الشعر الكثيف، والحواجب السميكة، والثياب والعمائم السوداء، والوجوه الغاضبة، والعيون الحادة التى تطق بالشرار. صورة «الداعشى» التى يرسمها الإعلام العالمى والإقليمى والمحلى هى صورة الشيطان حين يتكلم باسم الدين، أو بالعنوان العبقرى لإحدى قصص نجيب محفوظ «الشيطان يعظ». كأنى بأى داعشى من الدواعش الذين شاهدناهم وهم يذبحون أو يفجرون قد تم رسم صورته على الورق فى شكل «الشيطان» المريد، ليتم تجسيده بعد ذلك بشكل بالغ الحرفية فى الواقع المعيش، وكأنى بمن فعلوا ذلك أو يقفون وراءه مخرجون محترفون أجادوا فى بناء المشهد ورسم شخوصه. صنّاع «الحالة الداعشية» يفهمون تماماً حاجة الإنسان إلى وجود «الشيطان» فى حياته، وهو وجود يرقى إلى مستوى الحتمية. فكل الأديان -سماوية وغير سماوية- تستحضر فكرة الشيطان بنفس القدر الذى تحرص به على تأكيد حقيقة الإيمان بالإله المعبود. وجود الشيطان مهم كمبرر لفكرة الغواية والانفلات من حظيرة الإيمان، وحال البعد عنه وعدم الخضوع لوسوسته يظهر الدليل على رسوخ الإيمان فى النفس. وفى القرآن الكريم تجد تشخيصاً دقيقاً لقدرة الشيطان على بشر، وضعفه الشديد وهزاله أمام بشر آخرين. وقد شخصت إحدى الآيات القرآنية الكريمة سلطان الشيطان على الإنسان بمنتهى العبقرية والإعجاز فى قوله تعالى: «وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىِّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». إنها الخطبة التى حكى القرآن الكريم أن الشيطان سوف يلقيها على البشر يوم القيامة، ليثبت لهم ضعفهم وغباءهم حين انقادوا لغوايته، ظناً منهم أن له سلطاناً عليهم، وهنا يبدو الوجه الثانى للشيطان، الوجه الضعيف، فهو لا يملك سلطاناً على البشر إلا من خلال التسلل إلى ضعفهم وأزماتهم، وفى غير هذه الأحوال يبدو ضعيفاً عاجزاً، وصدق الله العظيم إذ يقول «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا».