علمونا ونحن صغار أن للحياة حرمة، وأن للحرب أسباباً، وللمعركة ميداناً، وللقتال شرفاً، وللمواجهة أصولاً، وللعدو حقوقاً.. وللانتصار آداباً. لكنهم نسوا أن يعلمونا ماذا نفعل عندما تصبح الحياة مستباحة، والحرب قذرة، والمعركة بلا ميدان، والمواجهة غادرة، والعدو (قارح)، والانتصار فاجراً، بعد أن ألبسوا الباطل ثوب الحق.. فنبتت لوجهه لحية وليده مسبحة. أنامونا بحواديت البراءة والسذاجة، حيث ينتصر الخير ويحمل البطل المغوار أكاليل الغار.. وكبرنا وقد ترك البطل الشريف الذى ينتصر دائماً الأساطير القديمة ودرعه وسيفه وجلس على مائدة المفاوضات.. يشرب نخب اتفاقات يتم مساومته فيها على فتات حقوقه بابتسامة مزيفة، بعد أن أُهدرت طاقاته وثرواته على يد الأصدقاء قبل الأعداء، والأبناء السفهاء قبل الأغراب. بدأ الملثمون فى هُرائهم يتواقحون، وأفواه أسلحتهم فى رأس صديقه ودُفعته، ليدرك أنها النهاية. توقف الزمان قليلاً فى الوادى المقدس لجلال الموت وقد أهدروه.. ماذا عساه أن يقول لأهله المنتظرين دائماً؟ لفحة لهيب دموعها تحتمل الموت برضا.. ولا تحتمل فقد ابن عمرها. يعتصر قلبه حديث لم يكن يمله عن حنين لنبض نابت فى الأحشاء يحمل بصمته واسمه.. لم يره بعد ولن يراه أبداً. شعر بالحزن لشريكة أحلام العمر تنتظر خلف الباب من لن يعود أبداً. عاود النظر إلى رفيقه مرة أخرى وقد كشفوا هويته العسكرية وتأهبوا لقتله فى محاكمة فاجرة، عنصرية المنطق، جاهلية الفكر، بربرية التنفيذ.. عشرات الأشباح الممسوخة تقيم حداً وثنياً لإله لم نسمع عنه بعد، تصحبها عدسات لا تهتز يد حاملها، تسجل دليل خستها بنفسها، بقتل أسير فى حرب غير معلنة ولأسباب غير مفهومة.. إلا لعدو قابع يتفرج هنالك فى الشرق فى انتظار أن ننتهى على يد سفهائنا بعد أن ذاق مرار المواجهة. التفت الملثمون ينظرون فى ريبة لبطاقة هويته الجديدة، لا تحمل ما يبحثون عنه، فإفصاحه عن حقيقته العسكرية لن يؤدى إلا إلى زيادة الشهداء واحداً أعزل لم ينل فرصته فى نزال شريف.. وقد اختل ميزان القوة فى وجود كل تلك الأسلحة الثقيلة التى دخلت البلاد بأختام أنفاق للخيانة زرعوها زرعاً شيطانياً فى غفلة استسغناها بعد أن ابتزوا مشاعرنا بضرورات احتياجات الحياة للأرامل والأيتام.. وكان رد الجميل لوطن فتح ذراعيه لإخوة الدم والعروبة خناجر كل العصور بأشكال وأسماء كثيرة. فإذا كان لديه أسباب متعددة للحياة مسبقاً، فقد أصبح لديه الآن سبب واحد أعظم وأكبر.. لن يترك دينه وأرضه، وقصاص عادل هو من شيم أولى الألباب دون أن يسترده من الرويبضة الخونة لكل ما نادت به الشرائع السماوية والأخلاقية والفطرة السوية. شعر بالخجل من رفيق سلاحه الذى أنكر معرفته، شعر بغضب جامح، كاد أن يعلنها صارخاً، ولكن نظرة ناهرة من صديقه أطفأت لهيب الكلمات. التقط أنفاساً حائرة، ليذكّر نفسه بأنه ليس فى نزال شريف مع خصم يستحق الاحترام فلتذهب كل الاعتبارات الساذجة للبطولة إلى الجحيم. ما قيمة اعترافه بصفته ثم موته بلا ثمن، ومن يأخذ الثأ،ر ومن سيعرف الحقيقة؟ تركوه بناء على هويته المدنية المصطنعة. لم يعرف كيف رحل تاركاً رفيقه للموت.. لكنها الحياة بقسوتها واختيارات نجبر عليها.. ليست فى حقيقتها اختيارات. رحل وآخر نظرة من رفيقه هى كل ما يراه.. هى زاد لأيام مقبلة كثيرة، وقد تغير معنى كل شىء أمامه، فلتذهب كل تفاهات الحياة إلى الجحيم، لتذهب جلسات شعب على مقهى يهدر فيه نصف عمره وطاقاته وأمواله إلى الجحيم.. شعب فى حالة سعال مستمر من أثر دخان شيشة تحمل كل النكهات والروائح إلا رائحة الوطن.. وقد استورد كل شىء حتى تماثيل فراعينه. لقد آن للبطولة أن تتطور مع العصر حتى لا تصبح افتخاراً بعنترية ساذجة وإهدار حياة بلا مقابل، ولتتخذ شكلاً آخر غير ذلك الذى وعيناه صغاراً.. لا يتنازل عن المعنى الحقيقى للبطولة، ولكن بآليات تناسب الزمن الردىء.. فلا يقل عنه دهاء ومراوغة.. فقط يحتفظ بانحياز الحق ونبل الانتصار بلا سقوط فى آبار خسة الوسيلة، وبذاءة التشفى، وابتذال الانتقام. وسيعود سريعاً للأرض المقدسة، محملاً بوعود القصاص العادل، مودعاً دموعاً حبيسة المآقى فى انتظار الانهمار، وإقامة السرادق، وإطلاق زغاريد عرس السماء، وتلقى العزاء. هذا هو عرف بلدنا.. وحقيقة شرفنا.