كان المشهد بالأمس فى فرنسا نقطة تحول فاصلة، مئات الآلاف احتشدوا فى العاصمة باريس، وغيرها من المدن الفرنسية، قادة دول غربية وأجنبية يتصدّرون المشهد، كأنه موكب جنائزى غاضب!! بالأمس بدأ وزراء داخلية دول الاتحاد الأوروبى اجتماعاً لبحث الإجراءات العملية للتصدى لخطر الإرهاب الجامح، الذى تسلل إلى بلدانهم فجأة، وضرب الأمن والاستقرار الذى كانت تتباهى به أوروبا، وتعتبر نفسها فى «مأمن» من سيناريو الأحداث الذى تشهده منطقة الشرق الأوسط منذ وقت ليس بالقليل. وقُبيل هذا الحشد الجماهيرى العارم، كان الرئيس الفرنسى «أولاند» قد طلب من شعبه تفويضاً لمواجهة الإرهاب واتخاذ إجراءات استثنائية ضد المتطرفين، إنه يكرر نفس السيناريو المصرى، عندما طلب الفريق أول عبدالفتاح السيسى وزير الدفاع، فى هذا الوقت تفويضاً من المصريين فى 24 يوليو 2013، لمواجهة الأعمال الإرهابية، فخرج إليه فى 26 يوليو نحو أربعين مليوناً فى الشوارع، منحوه هذا التفويض لاتخاذ كل الإجراءات التى من شأنها الحد من هذا الخطر العاصف الذى واجهته البلاد فى هذا الوقت. صحيح أن «السيسى» لم يتخذ الإجراءات الاستثنائية التى فُوّض فيها، وتمسّك بالقانون، ورفض الاعتقالات، إلا أن المشهد الفرنسى قطعاً سيكون مختلفاً، بالرغم من أن الأحداث التى شهدتها فرنسا لا تساوى جميعها حادثاً واحداً من الأحداث التى شهدتها مصر فى هذه الفترة كحادث كرداسة مثلاً..!! لقد اهتز المجتمع الغربى بعد حادث «شارلى إيبدو» بسبب سقوط 12 قتيلاً، بينما سقط الآلاف من المصريين وخُرّبت المؤسسات وأُحرقت الكنائس والمساجد على يد الإرهابيين، دون أن تلجأ الدولة إلى إجراءات استثنائية تُعطى جهات الأمن سلطات لمواجهة هذه الأحداث. لقد لجأت فرنسا على الفور إلى إجراءات استثنائية ضد كل المواطنين بلا استثناء، خاصة الذين ينحدرون من أصول عربية، كما أن قرارات خطيرة سوف تُتخذ خلال الساعات المقبلة، ولا تسألنى عما يُسمى ب«حقوق الإنسان، أو الحريات، أو الحق فى التعبير»، فكل هذه مصطلحات يراها الغرب فى هذه اللحظة تتعارض مع الأمن القومى وضرورة مواجهة خطر الإرهاب. وبعيداً عن فرنسا، تبدو حكومات دول الغرب، وقد تناست خطابها السياسى الذى صدّرته إلى المنطقة العربية ودول العالم فى الفترة الماضية، عن رفض الإجراءات الاستثنائية، كسبيل لمواجهة ظاهرة العنف والإرهاب، والتعامل مع الإرهابيين كفصيل سياسى، له كل الحقوق، حدث ذلك مع جماعة الإخوان أصل الإرهاب، ورفضت أمريكاوبريطانياوفرنسا وألمانيا حظر نشاط هذه الجماعة على أراضيها، ومارست الضغوط على مصر للتوقف عن ملاحقة أعضائها. وبعد وقوع الأحداث الإرهابية فى فرنسا أظهرت أوروبا مجدداً وجهها الحقيقى، فقد أعلنت بريطانيا رفع درجة التأهُّب الأمنى إلى مستوى الخطر، وقالت وزيرة الداخلية البريطانية «تيريزا ماى» إن بلادها رفعت يوم الجمعة درجة الخطر الإرهابى إلى مستوى «شديدة»، وهى ثانى أعلى درجة، تحسّباً لهجمات إرهابية ربما يجرى التخطيط لها فى سوريا والعراق. وقالت «إن هذا يعنى أن وقوع هجوم إرهابى فى بلادها بات مرجحاً»، وأشارت إلى أن «بعض خطط هذه الهجمات المتوقعة يقوم بها مقاتلون أجانب سافروا إلى سوريا والعراق من أوروبا». أما رئيس الوزراء البريطانى «ديفيد كاميرون» صاحب مقولة «لا تسألنى عن حقوق الإنسان إذا تعرّض الأمن القومى البريطانى للخطر»، فقد عاد مجدداً ليقول «إنه سيتخذ خطوات إضافية لمنع الأشخاص من السفر إلى سوريا والعراق». وحثّ كاميرون المجتمع الدولى على محاربة التطرّف والإرهاب وأعرب عن خشيته من امتداد تنظيم داعش إلى لبنان والأردن وقال إن خطر هذا «التنظيم» يُهدد أوروبا كلها. أما الحكومة الهولندية، فقد أعلنت على الفور أنها تعتزم سحب الجنسية الهولندية من المقاتلين الإسلاميين المتطرّفين حتى فى حال عدم إدانتهم المسبقة أمام القضاء. هكذا أصبح مجرد الاتهام فى هولندا، يعطى السلطات الحق فى سحب الجنسية من المواطنين الهولنديين الذين يُشتبه بتورطهم أو انضمامهم إلى أى تنظيمات دينية متطرّفة، دون حتى إدانة جنائية من القضاء!! أما رئيس الوزراء الفرنسى، فقد عاد إلى الفكرة التى طرحتها مصر فى عام 1984، بالدعوة إلى مؤتمر دولى لمكافحة الإرهاب، هكذا وبعد مُضى أكثر من ثلاثين عاماً، عادت أوروبا تطرح ذات الفكرة التى طرحها الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى وقت سابق. لقد قال رئيس الوزراء الفرنسى «مانويل فالس» إن فرنسا فى حرب ضد الإرهاب، وليس ضد «دين» ما، وقال «إن إجراءات جديدة سوف تُتخذ دون شك لمواجهة هذا التهديد الإرهابى»!! أما عن الموقف الأمريكى، فهو شأنه شأن مواقف الكثيرين فى أوروبا، لا يزال يعيش حالة «التناقض»، ففى الوقت الذى أعلن فيه «مايك روجرز» رئيس لجنة الاستخبارات بالكونجرس الأمريكى، أن هناك ألفين من مقاتلى «داعش» يحملون جوازات سفر أجنبية ويشكلون تهديداً لأمن الولاياتالمتحدة، فإن الحكومة الأمريكية لا تزال تناصب نظام بشار الأسد الذى يخوض حرباً ضد «داعش» والإرهاب العداء، وتسعى إلى إسقاطه. وحتى باريس التى تعرّضت للضربات الإرهابية، فإنها تعيش لحظة «التناقض» ذاتها، لقد صرح الرئيس الفرنسى «أولاند» الخميس الماضى بأن «الأسد» لا يمكن أن يكون شريكاً فى الحرب ضد الإرهاب، واصفاً إياه بأنه حليف «للجهاديين» وقال: «إنه لا يمكن الاختيار بين نظامين همجيين»!! هكذا يتناقض الرئيس الفرنسى مع الواقع، ويُصر كما يصر الأمريكيون والبريطانيون وغيرهم على دفن رؤوسهم فى الرمال، فقد كان لكل منهم دوره المباشر فى تفجير الصراعات فى المنطقة وإسقاط أنظمتها الوطنية وفتح الطريق أمام الإرهاب ودعمه بكل السبل. لقد أدانت وزارة الخارجية السورية الاعتداء الإرهابى على مجلة «شارلى إيبدو»، إلا أنها أصابت كبد الحقيقة عندما قالت: «إن هذا الاعتداء هو إثبات على أن الإرهاب فى سوريا سوف يرتد على داعميه، ويؤكد قصر نظر السياسات الأوروبية، خاصة أن سوريا سبق أن حذرت مراراً وتكراراً من أخطار دعم الإرهاب، لا سيما الذى استهدف سوريا والمنطقة العربية. وقالت الخارجية السورية فى بيانها «إن الأحداث والتهديدات التى طالت أكثر من مدينة أوروبية تؤكد قصر نظر السياسات الأوروبية ومسئوليتها عن هذه الأحداث وعن الدماء التى سالت فى سوريا». واعتبرت الخارجية السورية أن هذا العمل يوضح بشكل لا لبس فيه الأخطار التى يمثلها تفشى ظاهرة الإرهاب التكفيرى، والتى تشكل تهديداً للاستقرار والأمن فى كل أرجاء العالم. ودعا البيان إلى تصويب السياسات الخاطئة والالتزام بمكافحة الإرهاب بكل أشكاله، وفق الشرعية الدولية ومساءلة الدول التى قدّمت، ولا تزال، مختلف أشكال الدعم للمجموعات الإرهابية. إن السؤال الذى يطرح نفسه هنا: ماذا ستفعل حكومات أوروبا، التى أصبحت على قناعة أنها سوف تجنى ثمار ما زرعته يداها؟! هنا يمكن القول، إنه وبالرغم من الخطاب الغربى المتشدد تجاه نظام الرئيس السورى بشار الأسد، إلا أن واقع الأحداث سيدفع الحكومات الغربية إلى مراجعة سياساتها، خاصة بعد أن أدركت أن خيارها الوحيد، فى التنسيق مع النظام السورى للقضاء على تنامى نفوذ التنظيمات الإرهابية فى سوريا والعراق، وتحديداً «داعش والقاعدة والنصرة». ربما لا يأخذ هذا التنسيق شكله المعلن، ولكن حتماً فإن السياسات الأوروبية الخاطئة فى التعامل مع ظاهرة الإرهاب ودعمها، لن تجد طريقها إلى الواقع مرة أخرى، خاصة بعد أن أدرك الجميع أن هذه السياسات كانت سبباً فى الأحداث الإرهابية التى شهدتها فرنسا مؤخراً، وأن تنظيم داعش أعلن من سوريا مسئوليته عنها، واعتبر قتلة الصحفيين الفرنسيين وغيرهم فى عداد «الشهداء»!! إن المؤكد أن هذه الأحداث لن يكون تأثيرها مقصوراً فقط على مراجعة السياسات الغربية فى المنطقة العربية، ومن بينها مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، بل سوف يمتد الأمر إلى إجراءات قمعية عنيفة، تفرض سيطرة الدولة «البوليسية» فى هذه البلدان. إن ذلك سوف ينعكس بالقطع على الأوضاع فى مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن تحديداً، كما أنه سوف «يفرمل» كثيراً من الخطط التى تستهدف تفكيك السعودية والتآمر على أمن دول الخليج. لقد أثبتت الأحداث لدى صنّاع القرار فى الولاياتالمتحدة والغرب أن مخطط «التفكيك والتفتيت» فى المنطقة باسم «الديمقراطية» سوف يخلق بدائل معادية، تمارس العنف والإرهاب، وقمع الحريات، وتعمل على سيادة الفوضى، ثم سرعان ما تنتقل إلى أوكار دول الغرب ذاتها لتهديد أمنها واستقرارها. أما إذا لم تتعلم أوروبا الدرس، وظلت على عدائها مع الأنظمة الحاكمة فى المنطقة العربية، فسوف تنتقل «داعش» من مكان إلى آخر فى هذه البلدان، وساعتها لن تغفر الشعوب لحكوماتها أبداً، وستحاسبهم على أفعالهم التى حوّلت المنطقة العربية من منطقة سلام وتسامح إلى منطقة مصدّرة للإرهاب والكراهية!!