فى إطار بانوراما الفيلم الأوروبى، عُرض فيلم «قيصر يجب أن يموت» للمخرجين الإيطاليين الأخوين باولو وفيتوريو تافيانى اللذين تجاوز كل منهما الثمانين عاماً.. قدما منذ تحقيق فيلمهما الأول عام 1962، وعلى مدى خمسين عاماً حتى الآن، العديد من الأعمال التى ستظل على قائمة كلاسيكيات السينما فى العالم، من بينها «كاوس» و«الأب السيد» و«المروج الخضراء» و«ليلة سان لورنزو» و«صباح الخير يا بابل».. وغيرها من الأعمال التى خلدت اسميهما فى تاريخ السينما. «قيصر».. تحفة سينمائية جديدة حصدت، عن جدارة واستحقاق، العديد من الجوائز المحلية والدولية، على مستوى الفيلم أو العناصر الفنية، ربما كان أهمها جائزة الدب الذهبى لأفضل فيلم فى مهرجان برلين السينمائى الدولى (2012) متفوقاً على أسماء عديدة كبيرة شاركت فى المسابقة الرسمية للمهرجان، ذلك أن الفيلم الذى لا تتجاوز مدة عرضه ستاً وسبعين دقيقة، يمنح المشاهد متعة ذهنية وبصرية فائقة ويفصح عن فهم عميق لعلاقة المسرح بالسينما، كما يطرح رؤية المخرجين لمفهوم الحرية بمعناه الشخصى والعام.. من خلال إعداد يمكن وصفه، من دون مبالغة، بالعبقرى لمسرحية شكسبير الشهيرة «يوليوس قيصر» وهى واحدة من أهم وأفضل مسرحياته وفيها يتابع تفاصيل المؤامرة التى انتهت باغتيال قيصر الطاغية على يد أصدقائه ومعاونيه.. كما يشير إلى نسبية مفاهيم الصداقة والوفاء والشرف والنبل والخيانة والنذالة.. وقد استطاع الأخوان تافيانى أن يوظفا مقاطع من حوار النص المسرحى متداخلة مع حوار للشخصيات يعبر عن دواخل ودوافع مجموعة ممثلى العرض الذين اختيروا من بين سجناء سجن ريبييا الإيطالى الشهير الذى يحظى بحراسة أمنية مكثفة ومشددة والذى اتُّخذ مسرحاً لأحداث الفيلم. فى استهلال قوى، مصور بالألوان نشاهد أحداث الفصل الأخير فى النص الشكسبيرى، وهو ذات المشهد الذى يختتم به الفيلم، وبين القوسين -البداية والخاتمة- يرجع بنا السيناريو ستة أشهر إلى الوراء، صورها القدير سيمون زامبانى بالأبيض والأسود لنتعرف على مجموعة السجناء الحقيقيين.. وعلى ما اقترفوه من جرائم متنوعة بين المخدرات والإرهاب والقتل وغيرها، والتى تصل الأحكام فى بعضها إلى مدى الحياة. نتابعهم وهم يتعرضون لاختبار لقدراتهم التمثيلية واختيار بعضهم من قبَل مخرج العرض الذى يعهد لكل منهم بالقيام بدور إحدى الشخصيات فى العرض المزمع لمسرحية «يوليوس قيصر».. أثناء البروفات يمزج السيناريو ببراعة بين النص والواقع ويضع القيم الثابتة فى اختبار دائم، وخلال الأشهر الستة تتغير حياة السجناء/ الممثلين ويتغير أسلوب تفكيرهم ويتحولون إلى شخوص أخرى تفتحت أمامها آفاق أوسع وأرحب وراجعت قناعاتها عن مفهوم الحرية لينتهى الفيلم بعبارة لأحد السجناء حين يعاد مرة أخرى إلى زنزانته بعد انتهاء العرض: لقد تحولت هذه الزنزانة إلى سجن بعدما عرفت الفن. حملت المعالجة بعداً تسجيلياً أثناء متابعة أداء السجناء لأدوارهم أو فى حياتهم اليومية، جاء متناغماً فى هارمونية بديعة بين الروائى والتسجيلى تشهد بمهارة المونيتر روبرتو بربينانى الذى وفق فى خلق إيقاع متدفق تخلله استخدام لمساحة من الإظلام التام لمرتين تعبيراً عن تحول داخلى للشخصيات أو لمرور زمن، كما استخدم المزج بأناقة، بين والزلوان في مشهد وحيد حين يتأمل أحد السجناء ملصقاً الأبيض والأسود سبق أن مر به لجزيرة فى بحر ممتد الأفق تتحول تدريجياً إلى الألوان حين يدرك السجين قيمة ومعنى الحرية. بصرياً.. يقدم مدير التصوير بالأبيض والأسود، مجموعة من اللقطات التشكيلية تحمل قيماً فنية وجمالية ودلالات رمزية كاشفاً عن عمارة السجن المحتشدة بالقضبان المانعة لهواء الحرية تكاد فى تكويناتها وممراتها الخشنة تشبه روما القديمة.. كما يؤكد الأبيض والأسود افتقاد الحرية لهولاء السجناء، ويساعد فى إسقاط كثير من التفاصيل غير الضرورية فى ماضى شخصياته ليتم التركيز على طريقة وأسلوب أدائهم التى أظهرت قدرة المخرجين فى توجيه ممثليهما غير المحترفين الذين أظهر معظمهم تفهماً عميقاً لشخصياتهم خاصة سلفاتور سوريانو فى دور بروتس. «قيصر يجب أن يموت» تحفة فنية امتزجت فيها السينما بالمسرح، والتسجيلى بالروائى، والألوان بالأبيض والأسود، والحرفة بالهواية، والواقع بالخيال، والسجن بالحرية، والوفاء بالخيانة، والفرجة بالفكر، والإبداع بالإمتاع.. لذا كان على قيصر أن يموت.. ليحيا شكسبير والأخوان تافيانى.