مدق ترابى، على جانبيه تظهر حقول البطاطس، ومقابر الموتى، كلما قطعت مسافة أكبر، زاد ضيق الطريق، حتى تصل إلى منزل، جدران من الخوص المقيد بالحبال، وبجانب بوابته الخشبية البالية، تجلس سيدة أربعينية، متشحة بالسواد، بملابسها الرثة، وأيدٍ مشققة. عزة إبراهيم القابعة فى منزلها الفقير الواقع فى حوض «مسلم» رقم عشرة، التابع لقرية فيشا الكبرى بالمنوفية، تتذكر حين دخل عليها نجلها الأصغر، قبيل عملية الترشح للانتخابات الرئاسية وقال لها: «فيه اتنين بيمضّوا الناس على توكيلات للسيسى، أبويا الحج فاضل وأنور ومراته ومرات أبويا الحج فاضل بيمضوا». تخرج السيدة، بملامحها المتعبة من شقاء العيش، لتشاهد جامعى توكيلات «السيسى»، الذى كانت ترى فى نجاحه، مخرجاً لها من حالة الفقر والعيش الضنك: «جه فى البيت اللى قصادنا بتاع سِلفى، نده عليهم وقال لهم دى توكيلات لترشيح السيسى، والتوكيل بعشرة جنيه». تقدم الرجل نحو السيدة العجوز الواقفة أمام منزلها، ودعاها للتوقيع على توكيل ترشيح السيسى: «قُلت له أنا مبعرفش أمضى»، فأخرج على الفور -حسب روايتها- ختّامة من جيبه، وأمسك بيدها ووضع بصمات يدها على ورق التوكيل: «إدانى 20 جنيه ومضّانى على ورقتين وقال لى ليكى ولابنك»، وعلى الرغم من أنها كانت تلك المرة الأولى التى تشاهد فيها السيدة أحداً يدعو للمشاركة فى الانتخابات أو تأييد مرشح فى منطقتهم التى تقع على أطراف القرية الفقيرة، إلا أن الزخم الإعلامى حسب كلامها وأحاديث التليفزيون اليومية عن تأييد السيسى، واسم الرئيس وصورته التى لم تفارق أيادى الرجل الذى جمع التوقيعات والمعروف بين القرية بأنه يعمل محامياً، لم تجعل «عزة» تشك ولو للحظة واحدة فى الأمر: «مش فاكرة كان يوم إيه بالظبط لكن ساعتها التليفزيون كله كان بيقول لنا ننزل نعمل توكيلات للسيسى عشان الانتخابات، وأنا جوزى صول فى الشرطة وكان بيقول لى على اللى بيعملوه الإخوان». السيدة التى تقول إنها تعرضت لعملية احتيال دبرها لها هى وعدد من جيرانها ذلك المحامى، ومحتال آخر، لابتزازها بالأموال، رفضت المشاركة فى عملية التصويت فى الانتخابات خوفاً من أن تعاد الكرة معها مرة أخرى: «دول من بلادنا يعنى ماخوّناش، والحتة اللى بصّمنى فيها كانت فاضية، وأنا لا بقرا ولا بكتب ولا بعمل حاجة، فهو استغل الحتة دى، حسبى الله ونعم الوكيل»، وبعدها بشهور فوجئت بأنه يقاضيها بوصل أمانة ب 400 ألف جنيه، فى ذهول استقبلت الخبر، لم تعرف من أين أتى الدين، ولا مَن الدائن: «إخواتى سألونى انتى مضيتى لحد على ورق أو وصل أمانة أو أى حاجة.. فقُلت لهم لا، اللى حصل بس إنى مضيت من كام شهر على توكيل للسيسى جه مضّى الناس هنا، والحتة كلها مضت وأنا آخر واحدة بعديهم». تعرضت السيدة وأسرتها لمساومة من الرجل، وطالبهم الرجل الذى يدعى «سيد أبوحسين»، ببيع قطعة الأرض (قيراطين) التى يملكونها ويقتاتون منها لقمة العيش هى وأبناؤها الثلاثة، ما رفضته السيدة وأسرتها فطالبهم بدفع مبلغ مالى 180 ألف جنيه مقابل التنازل عن المحضر، وتسوية القضية. بجسمه الممتلئ، وملامحه الضخمة، يقول أيمن عيد عبدالنبى، محامى السيدة، إن أهالى القرية تعرضوا لعملية نصب لم تتعرض لها السيدة وحدها ولكن تعرض لها عدد كبير من جيرانها، وقتما كان الجميع يجمع التوكيلات باسم السيسى، فاستغل ذلك عمرو جمال الشرقاوى، محامٍ، وشخص آخر يدعى سيد أبوحسين الذى كتب التوكيلات باسمه، وتمت دعوة أهالى القرية للتوقيع على توكيلات مزيفة للسيسى، وقطعا الجزء العلوى منها وبقى جزء فارغ ممهور بتوقيع أهل القرية، فكتبا به وصل أمانة، كان أولها باسم «عزة» بمبلغ 400 ألف جنيه، فى الوقت التى يهدد فيه المحامى والمحتال، باقى أهل القرية ممن وقعوا على التوكيلات حال الوقوف بجانبها. المحامى «عيد» يقول إن الأهالى فى القرية، اعتادوا على عملية جمع التوقيعات، وشراء الأصوات، خلال انتخابات مجلسى الشعب والشورى، فلم يكن غريباً عليهم التوقيع على التوكيل مقابل 10 جنيهات، ويؤكد أن من وصفه بالمحتال «أبو حسين» هو على خلاف مع نجل السيدة، فاستغل عملية الانتخابات وشعبية «السيسى» للنصب على السيدة وجيرانها: «المحامى استغل أن الست عارفة أنه من أهل القرية ويجمع توكيلات السيسى، واسم السيسى وحده خلاّها تطمئن». حرر «أبوحسين» محضراً للسيدة ب 400 ألف جنيه بعد شهور من الواقعة، قيد برقم 18146 جنح منوف، وهدد أهالى القرية حسب رواية المحامى، بتكرار الكرّة معهم، فى حالة الشهادة بما حدث، ويستعد «عيد»، بعمل محضر بواقعة النصب، وشهد أهالى القرية متحدين ضد «أبو حسين»، وعلى رأسهم قائد الدراجة البخارية الذى جاء برفقة المحامى «النصاب» حسب قول عيد. المنزل الأكثر أناقة وسط البيوت الطينية الفقيرة، يمتلكه سعد السيد سمير، أحد العاملين بالقوات المسلحة المحالين للتقاعد، بكلمات مرتبة يروى أن المحامى ورفيقه قائد الدراجة قدما للمنطقة أثناء فترة جمع التوقيعات للسيسى، ولكنه رفض التوقيع، لأنه وقتها كان ما زال يعمل بإحدى هيئات القوات المسلحة، ولكن عدداً من العاملين الذين كانوا يقومون بطلاء منزله وقعوا: «وقع 2 كانوا شغالين بيدهنوا المنزل وكل واحد منهم خد عشرة جنيه، ودلوقتى لما وصلهم اللى حصل مع عزة قلقانين يحصل معاهم هما كمان كده»، ويروى أن الرجل سأل بالاسم على منزل السيدة، ويتابع: «إحنا فى حتة متطرفة، ودى أول مرة ينزل فيها حد يتكلم فى السياسة ولاّ يشتغل سياسة، إحنا ساكنين وسط الغيطان، وأنا سألته التوكيلات بتتعمل فى المحكمة فقال لى إحنا بنريحكم وأنا محامى وهعرف أعملهم من غير تعب وفيه ناس بتدفع فلوس لدعم السيسى وكل توكيل بعشرة جنيه». داخل مقر شركة الصرف الصحى فى قرية فيشا الكبرى، يقف «محمد عفيفى» قائد الدراجة البخارية الذى رافق «عمرو» المحامى أثناء جمع التوقيعات بالقرية، ينكر معرفته بنيته بالنصب على أهل منطقة حوض «مسلم»: «أستاذ عمرو جالى وقال لى تعالى وصّلنى بالموتوسيكل بتاعك حوض مسلم عند الترب، وذهب لمنزل الحاج فاضل الصعيدى، وجمع توقيعاتهم باسم السيسى»، وعلى الرغم من عدم معرفة عفيفى أنه ينتمى لأى من حملات السيسى، ولكن الجيرة وبحكم أن عفيفى مدرب لعمرو فى مركز شباب القرية حيث يعمل مدرباً للكاراتيه، وكان بالنسبة له مصدر ثقة، ولكن حين علم بما حدث مع «عزة» قرر التوجه والشهادة فى النيابة بما حدث، وينكر معرفته بنية «عمرو» باستغلال تلك التوكيلات ضد أهل «حوض مسلم». على أحد مقاهى القرية، يجلس أنور فاضل، أحد الموقعين على التوكيلات المزيفة، يقول «عمرو الشرقاوى المحامى، جاء إلى حوض مسلم ومعه محمد عفيفى على دراجة بخارية، وخاطبنا بحماس بضرورة الوقوف إلى جانب السيسى للتخلص من حكم الإخوان، الناس هنا بتكره الإخوان وحبنا للسيسى خلانا نمضى وإحنا مغمضين». الرجل الذى يعمل على إحدى سيارات جمع الصرف الصحى بالقرية، يؤكد أن تلك المرة الأول التى يهتم أحد بمنطقة الغيطان فى القرية: «المفروض التوكيلات تتعمل فى الشهر العقارى بس قُلنا ده محامى وأكيد عارف وهو من أهل القرية برده، وهيريحنا»، يؤكد أن العشرة جنيهات مقابل التوكيل لم تكن الدافع ولكن حب السيسى، وأنه أصر على إعطائنا العشرة جنيهات، وحين سألته عن مصدر الأموال، رد: فيه ناس بتدفع عشان تقف جنب الراجل ده فى الانتخابات عشان نخلص من الإخوان، وإدى الفلوس للواد ابنى الصغير فى إيده». «ابن البلد» كلمة يؤكد بها ثقته فى «عمرو الشرقاوى»، ولكن هو استغل تلك الثقة فى غير محلها: «إحنا فى بلد واحدة ومش بنخوّن بعضنا، وإحنا تقريباً كنا مجرد محاولة للنصب على الحاجة عزة، يستغلها وينصب عليها، واللى شجع الست أكتر أنها تمضى إن كل الحتة مضت وفى الآخر كانت نيتها تساند السيسى وتقف جنبه».