«بتونّس بيك وانت معايا».. كانت أغنية جميلة تنشدها وردة الجزائرية (رحمها الله).. وكان لكلمة «ونس» وقع يحمل معانى كثيرة لى لا أول ولا آخر لها.. وعندما قال لى أحد الأصدقاء إنها كلمة خفيفة تتراقص مع مفردات مفاهيم ومعانى التسلية العابرة! استأت جداً لأنى خفت وغِرت على كلمتى المحببة لقلبى التى تشملنى وأجدها معبرة تنساب وتجرى فى شريان أى شىء تحبه نفسى.. تسكن وتشتاق إليه.. وأنا أشتاق إلى وطنى.. ووحشنى «ونسه»!! وأعرف أن كثيرين منكم يعلم ويعرف ماذا أعنى بهذه الكلمة فى سياق ارتباطها بالوطن.. فدورى أن أكتب ما تدركونه أنتم فى أفكاركم وتعجزون أحياناً عن قوله بألسنتكم. لماذا أذكر ذلك الآن؟ لأننى منذ بضعة أيام تركت سيارتى فى جراج مؤسسة الأهرام وسرت على قدمى إلى نقابة الصحفيين مروراً بشارع الجلاء ومنطقة الإسعاف واختراقاً لشارع رمسيس.. وصولاً إلى النقابة.. كانت أسوأ رحلة عرفتها قدماى ربما طوال حياتى! ليس لأن الشارع متسخ أو رائحته تفوح بالقاذورات أو لأن ناسه كانوا غرباء عنى أو شبابه كانوا فى كرنفال قبيح أو سيرك عشوائى يفتقر للذوق والشكل والمعنى.. ليس لأن مبانيه كلها كانت ضائعة المعالم أو لأن سلوك سائقى سياراته كان غشيماً ومتخلفاً وليس لأن أصواته المزعجة خرقت أذنى أو لأن انبعاثاته الملوثة تسللت داخل رئتى أو لأن ألفاظ ناسه خدشت حيائى.. لا لا لا لا لا.. لا شىء من ذلك!! فلن أدعى أن ذلك كان شيئاً جديداً علينا. ولكن لأنى شعرت بأننى مغتربة أهبط من الفضاء على ناس تائهين مبعثرين لا ينتمى أحد منهم لأحد.. فشعرت بتلك الغربة الموحشة.. بهذا النسيج الشارد مبعثر الخيوط بالرغم من أنه ينبع من نول واحد وتنسجه يد واحدة (الوطن)!! ولكنه وطن فقد سيطرته على خيوطه العديدة فكثرت ألوانها وتضاربت وضاعت هارمونية اتساقها مع بعضها حتى وإن اختلفت درجاتها.. فهرب «الونس» الذى كان يجمعهم معاً ويجمعنى أنا أيضاً.. هرب لأننا فقدنا الأمان بيننا.. نسير فى الزحام دون ونس المارة.. تسترنا بنايات لا نأتنس فيها بدفء جدرانها.. نعيش فى خوف لأننا أصبحنا لا نتحدث بلغة مشتركة (لغة الوطن الواحد). أين ذهب الحب.. وأين ذهب دفء البشر الذى عرفته عن هذا الشعب طوال عمرى.. أين ذهبت هذه الأعمال الصغيرة المعبرة عن الطيبة، الداعية للألفة والاطمئنان إلى أن هناك الآخر الذى يقف على بعد أمتار -لا تعرفه- لكنه على استعداد لحمايتك ومساعدتك.. كلها تعبيرات دالة على وطن متحد بمروءة شعبه وحبهم لبعضهم بعضاً.. وأين هذا الوطن؟! لقد توقفت عن قراءة الصحف تقريباً ومشاهدة البرامج التليفزيونية الفاشلة.. ولا أعرف كم منكم جالس الآن يقرأ هذا المقال؟ ربما أصبحتم مثلى.. فاقدين أم باحثين عن الصدق؟ أم سئمتم مثلى أيضاً من هذه الأفواه وهذه الأقلام التى تكتب شراً وتتحدث كرهاً!! وقد يبدو للبعض أن هذا مقال ساذج.. ربما.. ربما تشعر بذلك إذا كنت واحداً من هؤلاء الذين فقدوا الإحساس بمعنى الوطن «وونسه» الذى يحميك وليس حكومته.. قد يبدو مقالاً ساذجاً وسط أحداث طالت وركدت مياهها الجارية ودماؤها المتجددة.. ولكنى سئمت السير مع القطيع وسئمت كل هذه المشاعر السلبية وكل هذه الوجوه البائسة التى اصطدمت بها فى الشارع.. كلها لا تبحث فقط عن رغيف عيش.. أو عن حرية وكرامة إنسانية.. لكنها تبحث أيضاً عن شعب ووطن تتدفأ بين أحضانه «وتتونس» بصدق مشاعره.. وهذا لن يتحقق بكل هذه الأحقاد المدفونة وكل هذه الكراهية الصاخبة!! .. إنه غذاء الروح يا سادة.. غذاء الروح.. سر الحياة.. سر البقاء.