هكذا كانت تقول معلمتى مدرّسة التربية الرياضية «عليكم أن تقفوا عند هذا الخط وتستعدوا للسباق عند سماع إطلاق الصفارة.. فمن يلمس الحائط أولاً يصبح الفائز». فى كل مرة كان لى الحظ أن أفوز فى هذا السباق للمائة متر عدواً، الذى كنا نتدرب عليه أثناء هذه الحصة الممتعة المفضلة عندى.. ولكن برغم انتعاشة الفوز فإنه كان ينتابنى دائماً شعور غير مريح وأنا ألمس هذا الجدار الذى كان يقف حاجزاً فاصلاً بين مساحات الملاعب المختلفة بالمدرسة. كنت دائماً أفضل أن أصل إلى نهاية الخط الذى يقف عنده الجدار والأفق مفتوح، فكان هذا الجدار مانعاً لنشوة الفوز والانتصار التى كنا ننتظر أن نتلقى مردودها نحن الصغار من بقية تلاميذ المدرسة الذين يفصلهم عنا هذا الجدار.. هكذا كان، وهكذا كان أول شعور غير مفهوم وقتها للشكل والوجود المادى بل المعنوى لمعنى الجدار الذى يحجب التواصل مع الآخر. لقد طفحت هذه الذكريات وأعادتنى إلى أيام جميلة وأنا أشاهد احتفال العالم بمرور 25 عاماً على إزاحة الجدار الذى يفصل بين برلينالشرقيةوبرلينالغربية وهو الذى بدأ العمل فى إنشائه فى أغسطس عام 1961 وبلغت تكلفته 150 مليون دولار. حيث بُنى من الخرسانة المسلحة المحيطة بالأسلاك الشائكة التى يمر بها التيار الكهربائى بطول الجدار الذى بلغ 156 كليومتراً وضم 300 مركز للمراقبة و22 مخبأ! شعرت بالحسرة والألم وأنا أشاهد زعماء العالم -وعلى رأسهم أنجيلا ميركل رئيسة وزراء ألمانيا- وهم يحتفلون بهذا الحدث الذى أعاد إلى ألمانيا وحدتها وكرامتها الإنسانية لكنه فى الوقت نفسه رفع «حاجب الاندهاش» وكأن مشكلات العالم قد انتهت بعد إزالة هذا الجدار وكأن المزيد من الجدران العازلة لم يتم بناؤها للمزيد من العزلة.. المزيد من «الفرقة».. المزيد من الحرمان.. والمزيد من العنصرية! لقد أصبح هذا النفاق المظهرى مضحكاً، مريضاً ومثيراً للشفقة.. مشاهد مماثلة نراها كل يوم تختلف مناسبتها يلقى فيها القادة الخطب والكلمات لكنها كلمات تحمل بين سطورها الكثير من الاستهزاء والاستخفاف بالعقول. لقد سقط حائط برلين بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وساعد سقوطه فى تغيير مفاهيم كثيرة فى العالم كله كان من أهمها فتح باب العولمة التى انتظرنا فيها أن يصبح العالم منصهراً متآلفاً متسقاً ومنسجماً.. اعتقدنا أن حوار الثقافات كان قادراً على إزاحة الحواجز السياسية والاقتصادية لكننا صدمنا بغلق الأبواب وبناء الجدران وأدركنا أن هذا الحوار لن يتحقق إلا إذا فهم العالم أن جيرانه لديهم نفس المشكلات وعندهم نفس التساؤلات وأنهم كانوا فى انتظار من يرسل إليهم الإجابة ويمد لهم الجسور لكننا فوجئنا بمزيد من العزلة وكثير فقط من الكلام!! وبالتالى أصبحنا فريسة سهلة تتغذى بأيديولوجيات عقائدية ودينية متطرفة تبنى ستاراً وقائياً يحميها ويسمح لها ببناء كيان قوى يضعها على الخريطة التنافسية التى يخاف منها الغرب ويرتعب ونحن أيضاً!! ومع ذلك يستمر الحال كما هو عليه وتزداد الفجوة المانعة للاقتراب وتزداد معها خيبة الأمل والإحباط والشعور المتدنى الناقص الذى تسببه هذه الفوارق بين الشعوب فيعلو صوت الاحتقان ويتدفق فيضان من «الغل والحقد» لا يسد اندفاعه أو تكبت جماحه هذه الجدران أو هذه الخطب والكلمات المزينة بمعانٍ واهية لا تستند إلى واقع ولا تحمل من الصدق والعدل ما يهدئ النفوس ويسمح لحوار من التفاهم والحلول. إذن، ليست المشكلة فقط فى هدم الجدار والاحتفال بذكرى إزالته!! دعونا نحتفل عندما نستطيع بالفعل إزاحة الحواجز بيننا.. إنها لا تختلف كثيراً عن الحوائط المائية التى نبنيها داخلنا لتحجب عنا أحزان الحياة والمشكلات والاضطرابات التى تملأ عقولنا ونحاول التغلب عليها بالانغماس فى الحب وفى العمل.. بالإيمان.. بالأصدقاء.. بالإنكار أحياناً والمهدئات القاتلة. نحن نبنى هذه الجدران طوبة طوبة على مدى سنوات حياتنا ليصبح ارتفاعها، وسمكها وصلابتها كالمرفأ أو الملجأ القادر على شل انسياب الآلام للوصول إلى أعماقنا.. ومع ذلك تبقى مسام الجدران مفتوحة تتلقى «أوساخ» الحياة ولن يسدها إلا السماح بمرور انتعاشة المياه الصافية القادرة على تنقية الميول الحتمية العكرة داخل النفوس!! أزيحوا وأزيلوا الحواجز والجدران داخلكم ودعوا المياه الصافية تتدفق وتغمر عقولكم.. بالحب!!