حين قال لى الفريق الشاذلى: كيف أُحْسِن إدارة حرب ولا أُحْسِن نشر كتاب! تأخرتُ على الفريق الشاذلى عشر دقائق.. نظر فى ساعته وقال لى: هل تعرف يا أحمد.. لو أننى اعتمدتُ على أمثالك فى أثناء التجهيز والتنفيذ لحرب أكتوبر لوصلت إسرائيل إلى أفريقيا. (1) كان ذلك التعبير صادماً لى.. لكنه كان صحيحاً تماماً فى دلالاته الزمنيّة، ذلك أن حرب أكتوبر كانت تُدار ب«الفمتوثانية».. قبل أن يكتشفها الدكتور زويل فيما بعد. وأذكر أنه مرةً قال لى: كيف لم تتعلم دقة المواعيد وأنت على هذه الصلة القوية بالدكتور زويل؟! امتدح الفريق الشاذلى الدكتور زويل وطلب منّى ترتيب لقاء بينهما.. ثم قال: لقد كُنّا نتعامل فى حرب أكتوبر مع عنصر «الزمن» بأعلى مستويات الكفاءة والدقة.. كنا نتعامل بالفمتو قبل أن يعرف العالم زمن الفمتو. (2) جلستُ مع الفريق الشاذلى (200) ساعة، معظمها فى منزله فى شارع بيروت فى حىّ مصر الجديدة، وبعض الساعات فى منزله الريفى فى شبراتنا مركز بسيون محافظة الغربية.. وساعات أخرى فى كابينة أسرته فى المنتزه بالإسكندرية. وأذكر ذات يوم وأنا فى زيارته فى المنتزه.. ذهبنا معاً لصلاة الجمعة، وبعد انتهاء الصلاة وجدتُ أناساً كثيرين يتحلّقون حول الفريق الشاذلى بعد الصلاة.. وكانوا جميعاً يصافحونه: حرماً يا بطل. وقد وجدتُ فى وجهه الرضا على هذا التقدير الذى عَوّضَهُ سنوات الإهمال والسجون. وحين وصلنا إلى «الكابينة» كانت زوجته السيدة زينات قد أعدت غداءً رائعاً، وأثناء الغداء.. كان الفريق الشاذلى يتحدث معى «إنسانياً» للمرة الأولى والأخيرة.. ذلك أنه كان يتحدث كقائد وجنرال طيلة الوقت.. حتى إنه ليبدو مقاتلاً دائماً لم يترك السلاح ولم يغادر الميدان. (3) انتهينا من كتابة المذكرات فى عام 2007 وقد امتدت إلى (704) صفحات، ثم فاجأنى الفريق الشاذلى بالقول: علينا أن نوقّع الكتاب صفحة صفحة. قلت له: كيف؟ قال: هذه هى النسخة الكاملة.. سأوقّع أنا أعلى الصفحة وتوقّع أنت أسفلها. قلت له: ألا تثق فى؟ ألا يكفى أن نوقع على الصفحة الأولى فقط؟ قال: أثق الآن.. لكن لا أثق فى المستقبل.. ما الذى يمكن أن يحدث؟ ولا الضغوط التى قد تتعرّض لها. لقد حدث معى من قبل أن تعاقدت على كتاب للنشر فى بغداد، أخذوا منّى حقوق النشر ولم ينشروه بإيعاز من صدام حسين! وافقت فوراً، ذلك أن الشرف الذى كنت سأحظى به فى صفحة واحدة بات شرفاً مضاعفاً بعدد صفحات الكتاب.. وتملك السيدة «شهدان سعد الدين الشاذلى» تلك النسخة الموقّعة والكاملة من المذكرات. (4) كان الشيخ ذياب قد وافق على تنازل شركة «أوراق عربية» التى أسسها لنشر المذكرات ونقل الحقوق الفكرية لصالح الفريق الشاذلى وعائلته. وقد قرر الشيخ ذياب التنازل بعد أن اعترض الفريق الشاذلى على الطباعة فى دار الساقى فى بيروت ودار رياض الريّس فى لندن، وذلك لأسباب تتعلق برؤية الفريق لعدد النسخ وخريطة التوزيع. رحل الفريق الشاذلى عن الحياة قبل ساعات من رحيل الرئيس مبارك عن السلطة.. وقد طلبتُ من الصديق هشام أكرم حفيد الفريق الشاذلى أن ننشر تلك النسخة الكاملة الموقّعة التى رحل الفريق قبل أن يشهد صدورها. (5) يقول البعض: ولكن الفريق الشاذلى ارتكب جريمة فى عهد «السادات» بنشره مذكراته.. وكان حكم حبسه عادلاً لأنه أفشى الأسرار وقام بالإضرار بالأمن القومى المصرى. وتقديرى أن هذا قوْل خاطئ تماماً.. ذلك أن الفريق الشاذلى هو أجدر من الجميع بتقدير ما هو إفشاء للأسرار وما هو ليس إفشاءً للأسرار.. هو المرجعية والحَكَم فى التقدير. بل إننى أذهب إلى أبعد وأرى أن الفريق الشاذلى قد خدم المصلحة الوطنية بأن قام مبكراً بنشره كتاباً عن «حرب أكتوبر»، وهو الكتاب الذى أدخله السجن، بحجة إفشاء الأسرار العسكرية. كان «الشاذلى» يستحق الثناء لا الهجوم، والتقدير لا العقاب.. ذلك أنه أفاد مصر بنشره المبكر لحقائق الحرب.. ذلك أن كتابه كان المذكرات العسكرية الوحيدة التى نُشرت من الجانب المصرى، بالتوازى مع الجانب الإسرائيلى، ولو كان «الشاذلى» قد تأخر سنوات أو عقوداً على نحو ما تأخّر آخرون، لكانت الرواية الإسرائيلية للحرب قد سيطرت وحدها على المشهد. وفى تقديرى، فإن جانباً من أسباب انتشار الرواية الإسرائيلية الكاذبة للحرب هو المنع التعسّفى لنشر مذكرات القادة المصريين فى تلك الأثناء. (6) لقد سألت الفريق الشاذلى كثيراً عن ذلك، شعرت فى وجهه بالحزن والغضب.. قال لى فى حسم: أنا الذى أقرر ما هو صواب وما هو خطأ.. وأنا الذى أقرر ما يقع فى دائرة الأسرار، وما يقع فى دائرة المباح.. أنا رئيس الأركان وقائد الحرب، ولا يمكن أن أُحْسِن إدارة حرب ولا أُحْسِن نشر كتاب! الجزء الثالث والأخير.. الأربعاء المقبل بمشيئة الله حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر