جلسة معتادة كل يوم، وطريق ينتظره كل صباح من تلك البقعة القديمة التى تحمل تاريخاً لا يدركه فى «مصر عتيقة» كما يسميها لبقعة أخرى لم يخترها ولكن يبدو أن التاريخ قد قُدر له أن يمتد معه عبر سكنه ومكان عمله فى «الجمالية وبوابة الغورى». تلك الِسنّة الذهبية التى تتوسط هذه الأسنان المتراصة حين يضحك لا تختلف كثيراً عنها حين ينفرج فمه بالدعاء على «الصين واللى جابوا الصينين».. عم «فتوح زكى» القادم من قنا حيث برع والده فى صناعة القلل القناوى وجاء للقاهرة ليكمل مسيرته فى صناعة الفخار، فلم تعد القلل القناوى قادرة على أن تفتح بيتهم الفقير، فاستعان على حوائجه بالطواجن والأكواب والمباخر والشمعدانات، وكله من «الفخار». أيام طويلة كان يقضيها عم متولى مع أولاده ليصنعوا تلك الأوانى البسيطة.. «كانت الفواخير ورا جامع عمرو، لكن شالونا من هناك وكله هجّ زى الحمام». بنتان وولدان هم أولاده الذين اعتمد عليهم فى عمله، فلم تعد الصحة قادرة على النفخ أو «لت الطين». يتذكر أيامه منذ أن كان يسرح فى الموالد والأعياد بالقلل وقصارى الزرع والطُبَل البلدى.. «كنا بنعمل الطبلة البلدى وبنشد عليها جلد المعزة، لكن دلوقتى خلاص الصحة ولّت والزمن بقى غير الزمن». يتندر على زمن لم تعد مصر فيه قادرة على تصنيع الفخار وتستورده من الصين: «مصر دى أساس الفخار من أيام الفراعنة، دلوقتى الصين بتعملّنا الطواجن والكوبّايات». وكأنما استكثرت عليه الحكومة تلك القروش القليلة التى يحصل عليها من صناعة الفخار، فقررت أن تضيّق عليه وتنقل الصناعة القديمة من مصر عتيقة وتشتت شمل أصحابها.. «بقت الطواجن بتتعمل فى الشرقية، والقلل فى قنا، والمباخر فى أسيوط، والشمعدان والكوبايات فى بلبيس». لم تعد جلسته أمام بوابة الغورية كل يوم تكفيه، فالجنيهات القلية لا تزيد بينما متاعب الحياة لا تنقص، فالدنيا كل يوم قد اعتادت أن تلقنه درساً جديداً.. «والله الواحد يا ما بيشوف فيها.. لكن الحمد لله على كل حال».