كان لى الشرف أن أشارك فى لجنة الخمسين لكتابة دستور مصر، الذى أقره الشعب المصرى. وفى جلسة من الجلسات العلنية، وكنا على مشارف العيد. قلت مخاطباً زملائى فيما معناه: فى العيد كلكم ستذهبون إلى مدنكم وقراكم فيما عداى، فإن موطنى النوبى غريق، قفوا معنا ليأتى عيد علَّه قريب، أذهب أنا مثلكم إلى قريتى وأقضى أيام العيد بها. قبل عيد الأضحى بأيام، فوجئ النوبيون بأن وزير النقل قد ألغى قطارات النوبة. وهى قطارات بدأت منذ عام 1975، قطارات تحمل عدّة ألوف من النوبيين السكندريين والقاهريين إلى كوم أمبو، حيث قرى التهجير النوبية، والتى أطلقوا عليها كذباً (النوبة الجديدة)، وهى القرى التى تم تهجيرهم إليها عام 1964 بسبب بناء السد العالى. لماذا ألغى الوزير القطارات بعدما تم الاتفاق عليها! «اضطر لإعادتها»؟ السبب أن بعض القبائل بأسوان احتجت، وطالبت بتخصيص قطارات لهم، مثل قطارات النوبة؟ فوجئ النوبيون بالإلغاء! هذا التصرف غير منطقى وغير قانونى، فما تم الاتفاق عليه لا يمكن إلغاؤه بجرة قلم، وترك حوالى عشرة آلاف نوبى فى حيص بيص. لكن حقيقة، القضية أكبر من قضية قطار. القضية النوبية ليست قضية قطار. ليست قضية قرار عابر لوزير غير مدرك لحقوق النوبيين. القضية النوبية قضية نوبيين فى شتات مهين. قضية وطنية تتناساها الدولة وتتناساها قطاعات من شعب مصر، قضية إنسانية يتناساها العالم، وعلينا تذكيرهم بكم التضحيات النوبية، وكم العقوق والجحود التى يتجرعها النوبيون. النوبيون هُجّروا ويتم التعتيم على مأساتهم لأكثر من قرن كامل! لم يبدأ الشتات النوبى عام 1964 كما يظن بعضهم، بل بدأ شتاتهم يُعرف عام 1902، وفعلياً بدأت المأساة قبلها بثلاث سنوات، حين بدأ تهجير قرى نوبية بكاملها عام 1899. أى منذ مائة وخمس عشرة سنة! ثم تهجير ثان لمجموعة إضافية من القرى عام 1912؛ بسبب التعلية الخزانية الأولى، ثم 1933 لمجموعة ثالثة بسبب التعلية الخزانية الثانية. والتهجيرات الثلاثة كانت من مكانهم على شاطئ النيل لأعالى الجبال التى تحيط بهم. وكانت التهجيرات الخزانية الثلاثة مأساوية، ووقتها لم يكن هناك إعلام يفضح الجُرم البشع. ثم أتانا التهجير السدِّى عام 1964، وتمت عملية النصب الكبرى علينا بوعد الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر بلم شمل النوبيين وتأكيدات من وزيرة الشئون الاجتماعية وقتها د. حكمت أبوزيد. ولم يفيا بالوعد. وهُجرنا من موطننا إلى صحراء كوم أمبو. التهجيرات الخزانية الثلاثة كانت فى زمن الملكية. وأطلقوا على النوبيين وقتها (منكوبى خزان أسوان). كان هذا هو التوصيف الرسمى الحكومى؛ اعترافاً شجاعاً بأن النوبيين فى نكبة تهجيرات بالغة القسوة، بالغة الوحشية. هل هذا التوصيف يذكرنا بكارثة إنسانية أخرى؟ نعم. يذكرنا بنكبة 1948. الكثير من المصريين يفزعون من هذه الصلة، يفزعون من الرابط ما بين نكبة فلسطينية يقرون بها ونكبة نوبية أغلبهم لا يدرون بها، ومن يدرى لا يريد أن يعترف بها. ومن يدرى ومن لم يدر ومن لا يريد أن يدرى، كلهم رافضون لهذه الصلة بين النكبتين الفلسطينية والنوبية. ومهما رفضوا فهذا هو الواقع، هذه هى الحقيقة التى تظهر وتتأكد بشاعتها يوماً بعد يوم. حقيقة أن النوبيين فى نكبة مستمرة. وحتى الآن فإن النوبيين فى نكبة، مهما حاولت جوانب من السلطات المصرية الإنكار، ومهما حاول المستعلون علينا عدم الاعتراف. السؤال: لماذا استمع المسئولون لاحتجاج قبائل أسوانية على قطار النوبة؟ لأن المسئولين لم أو لا يريدون معرفة أن النوبيين ما زالوا مهجرين. إن النوبيين ما زالوا فى شتات. نسوا أو تناسوا أن النوبة موطنهم غريق، وأن الحاقدين عليهم موطنهم كما هو. بل إن موطن الحاقدين استفاد من إغراق النوبيين، فنالوا المياه التى حولت زراعاتهم من رى الحياض إلى رى دائم. وكهرباء السد دخلت قراهم، بل إن السياحة فى الآثار النوبية يعمل بها أبناؤهم! نسوا كل هذا، فلينسوا، لكن لماذا تنسى جوانب من الدولة المصرية أو تتناسى؟ ألا تعلم مصر أن هناك قانوناً إنسانياً اسمه الأولى بالرعاية؟ ففى المجتمعات الإنسانية حين تقع نكبة على قطاع منها، تعطى الدولة لهذه المجموعة التى وقعت عليها النكبة الأفضلية فى بعض الأمور. حتى تتعافى وتصير ظروفها مثل غيرها، وهنا ترفع عنها أولوية الرعاية؛ لذا يجب أن يُعامل النوبيون فى وطنهم المصرى برعاية خاصة، حتى تتم عودتهم لموطنهم وينفضون عنهم صفة المهاجرين. الأولى بالرعاية، هو ما طالبتُ به فى ورقتى التى ألقيتها فى المؤتمر القبطى العالمى الثانى «واشنطون 16-19 نوفمبر 2005» بعنوان (المأساة النوبية جزء من كل)، ومحور المؤتمر (الديمقراطية فى مصر للمسلمين والمسيحيين، واتصالها بالديمقراطية فى الشرق الوسط)، ففى البند الثالث من مطالباتى قلت: 3- نظراً لمسئولية الحكومات المصرية عن الحالة المتردية التى وضعوا الشعب النوبى فيها؛ فيجب معاملة أبناء النوبة معاملة الأولى بالرعاية فى التعليم والتوظيف والمخصصات المالية والعينية، مع تخصيص نسبة كافية من المعونات الأجنبية لإعادة توطين النوبيين. وقتها هُوجمت بقسوة ولم يستمع لى مسئول. أؤكد، نحن النوبيين من حقنا أن نعامل بأولوية حتى تنتهى نكبتنا، ألم يكن يطلق علينا أيام الملكية (منكوبى خزان أسوان). نحن حالياً منكوبو خزان أسوان والسد العالى. ولن نقبل أبداً بأن تقابل تضحياتنا بالجحود. ولن نقبل بعد ذلك بأن نقابل تنطع بعض الدوائر الحكومية بالسكوت.